لما انتقل مسلم الى بيت هاني ، وأخذت الشيعة اليه في هذا البيت (1) على تستر واستخفاء وتواصوا بالكتمان (2) وخفى على ابن زياد موضع مسلم دعا مولاه « معقلا » وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وذلك بعد موت شريك الأعور ، وأمره أن يلقى الشيعة ويعرّفهم أنه من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري ، وقد أنعم الله عليه بحب أهل هذا البيت وبلغه قدوم رجل منهم داعية للحسين ، وعنده مال يريد أن يوصله إليه.
فدخل « معقل » الجامع الأعظم ، ورأى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة يصلي ، وسمع الناس يقولون : هذا يبايع للحسين ، وأخذ منه البيعة والمواثيق ليناصحنّ ويكتمنّ كي لا يفشوا الخبر الى ابن مرجانة.
ثم أدخله على ابن عقيل في دار هاني ، وسلم المال ألى أبي ثمامة الصائدي وكان بصيرا شجاعا ومن وجه الشيعة ، عيّنه مسلم لقبض ما يرد اليه من المال يشتري به سلاحا ، فكان ذلك الرجل يختلف الى مسلم كل يوم فلا يحجب عنه ويتعرّف الأخبار ويرفعها الى ابن زياد عند المساء (3).
ولما وضح الأمر لابن زياد وعرف أن مسلما مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن خارجة ، ومحمد بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن انقطاع هاني عنه فقالوا : الشكوى تمنعه ، فلم يقتنع ابن زياد بعد أن أخبرته العيون بجلوسه على باب داره كل عشيّة ، فركب هؤلاء الجماعة الى هاني وسألوه المصير الى السلطان لأن الجفاء لا يحتمله ، وألحّوا عليه فركب بغلته ولما طلع على ابن زياد قال : « اتتك بخائن رجلاه » (4) والتفت الى شريح القاضي يقول (5) :
اريد حباءه ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
ثم التفت الى هاني قائلا : أتيت بابن عقيل الى دارك وجمعت له السلاح؟ فأنكر هاني ، ولما كثر الجدال دعا ابن زياد الجاسوس « معقلا » ففهم هاني أن الخبر أتاه من جهته فاعتذر بأنه لم يدعه الى منزله ، وإنما استجار به واستضافه ، والذمام الذي يحمله يأبى له ألا يجير من استجار به ، ثم طلب من ابن زياد أن يمضي الى داره ، ويخرج مسلما منها الى حيث شاء ليخرج بذلك من جواره ولا يكون سُبّة للعرب ، ويعطيه رهنا على ذلك ، فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلا أن يأتيه بمسلم (6).
ههنا جاهر ابن عروة بعقيدته ، فعرّف ابن مرجانة أن مسلما أحق منه بالأمر ولوفاء أبيه زياد ومكافاته في ولده لمعروفه معه يقوم بحمايته ، والدفاع عنه وعن أهله حتى يخرجوا بأموالهم إلى الشام سالمين ، لأن داعية الحسين (عليه السلام) أولى بالقيام على أمر الأمة وادارة شؤونها.
فغضب ابن مرجانة من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأن هذا محال عليه ويأباه دينه وعقيدته فقال في التعبير عنه :
لو كان « ابن عقيل » تحت قدمي لما رفعتهما عنه.
فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل ، فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع « ابن عروة » ثلاثون ألفا ، فقال لابن زياد : إذا تكثر البارقة حولك فاستدناه ابن زياد وأخذ بظفيرتيه وضربه بالسوط حتى كسر أنفه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته ، وتناول هاني سيف شرطيّ ، ومانعه الرجل فأمر به ابن زياد إلى الحبس ، فأدخل بعض بيوت القصر وجعل عليه حرسيّ.
فقال أسماء بن خارجة : أرسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى اذا أدخلناه عليك هشمت وجهه وأسلت دمه؟ فأمر به ابن زياد أن يخرج من المجلس فأخرجه الشرطة ، ولما رأى ابن الأشعث ذلك قال : ان الأمير مؤدب رضينا برأيه لنا أم علينا.
وبلغ عمرو بن الحجّاج قتل هاني الذي هو صهره على أخته « روعة » وهي أم « يحيى بن هاني » فأقبل في مذحج وأحاط بالقصر فأمر ابن زياد شريح القاضي أن يدخل على هاني ويخبرهم بحياته (7).
ولما سمع هاني لغط الرجال حول القصر وعرف أنهم مذحج صاح : يا للرجال أين عشيرتي ، أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، ألا عشرة من قومي ينقذوني من عدوهم وابن عدوهم؟
ومن يسمع صوته وأين من يبلغهم نداءه ، والخوف على رؤوسهم والطمع مخيّم على نفوسهم؟
نعم دخل قاضي المسلمين « شريح » على هاني ممتثلا أمر ابن زياد وخرج الى القوم يخبرهم بأنه حي ، فهلا مسائل لهذا القاضي المائل عن الحق كيف ساغ له إخفاء استغاثة هاني بقومه وعشيرته؟ وطمن القوم بحياته وسكن فورتهم حتى أزالهم عن القصر ، تهاونه؟ أبالخوف من بادرة ابن مرجانة؟ فهلا ضحى نفسه على تقديره دون مناصرة الحق وأهله وانقاذ المؤمن الاسير من أنياب الطاغية؟ ولماذا كان يدّخر الحياة الذميمة وقد بلغ من الكبر عتيا؟ ومن ذا الذي أخبره أنه لو أصدق القوم في المقال ، وزحفوا على القصر ، وأخرجوا زعيمهم وانتكث الأمر على ابن زياد كان يتمكن الدعيّ من التنكيل به؟ لكنه يتحرّى الحياة مع الظالمين!
ثم ألا مُسائل مذحجا لماذا تجمهروا على القصر ، ولماذا تفرقوا لمحض القول بأنه حي ، فتكون تلك الجلبة واللغط للوقوف على حياته أو مماته بحيث اذا وجدوه ميّتا شيّعوا جنازته ، وان كان حيا تركوه عرضة للذئاب وليست لهم حاجة في انقاذه. إذا فعلى الحفاظ والشهامة السلام.
راية الأمان :
لما رجع ابن الحجاج بمن معه من مذحج ، خرج ابن زياد الى الجامع الأعظم وخطب الناس وقال : اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، ان أخاك من صدّقك وقد أعذر من أنذر. (8)
وأمر محمد بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، والقعقاع بن شَور الذهلي ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن جريث ، أن يرفعوا راية الأمان ويخذلوا الناس (9) فأجاب جماعة ممن خيّم الفرق عليهم ، وآخرين جرّهم الطمع الموهوم ، واختفى غيرهم ممن طهرت ضمائرهم وكانوا يترقّبون فتح الأبواب للحملة على صولة الباطل.
______________
1) الأخبار الطوال ص235.
2) الإرشاد للشيخ المفيد.
3) الطبري ج6 ص204.
4) في مجمع الأمثال للميداني ج1 ص19 قاله الحرث بن جبلة الغساني لما ظفر بالحرث بن جبلة العبدي حين هجاه.
5) في الإصابة ج3 ص274 بترجمة قيس بن الكشوح قاله عمرو بن معد يكرب في أبيات في ابن أخته وكانا متباعدين ، وفي الأغاني ج14 ص32 : ان أمير المؤمنين عليا تمثّل به لما دخل عليه ابن ملجم يبايعه.
6) ابن الأثر ج4 ص11.
7) الطبري ج6 ص206 ، ولكن في مثير الأحزان واللهوف لابن طاووس اسمها رويحة ، وأنها ابنة عمرو بن الحجاج.
8) الطبري ج6 ص207.
9) ابن الأثير ج4 ص12.