انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

قال ابن جرير : لما ورد نعي الحسين جلس عبد اللّه بن جعفر للعزاء و أقبل الناس يعزونه فقال مولاه (أبو السلاس) «1» هذا ما لقيناه من الحسين!! فحذفه بنعله و قال يا ابن اللخناء أللحسين تقول ذلك؟! و اللّه لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه ، و اللّه إنه لما يسخي بنفسي عن ولديّ و يهون عليّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي و ابن عمي مواسيين له صابرين معه ثم أقبل على جلسائه و قال الحمد للّه لقد عزّ علي المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي، فلقد واساه ولداي‏ «2» .. و من عجب التاريخ حديث البلاذري‏ «3» و المحسن التنوخي‏ «4» وفود عبد اللّه بن جعفر على (يزيد) و إكرامه إياه أكثر مما يكرمه أبوه معاوية.
إن من يدرس نفسية ابن جعفر يتجلى له كذب القصة التي أرسلها المدائني و استند إليها البلاذري و التنوخي! فإن الواقف على الرجال الموتورين لا يعدون الجزم بالتهاب قلوبهم نارا على واترهم و يترقبون الفرص للأخذ بالثأر! .. يشهد له حديث عبد اللّه بن أبيّ بن سلول مع النبيّ، و ذلك أن (أبيا) لما صدر منه ما حكاه الكتاب العزيز: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] , فجاء عبد اللّه إلى نبي الإسلام و قال لقد بلغتك هذه الكلمة من أبيّ قال نعم فقال إنك تعلم ما أحد بار بأبيه مثلي، فإن أردت قتله فأمرني به، لأني أخاف أن تأمر غيري و لا أحب أن أنظر إلى قاتل أبي فأعدو عليه فأقتله و أكون في النار «5» ... و هذه القصة تعطينا نيرة عما عليه البشر من احتدام أولياء المقتول على القاتل و تربصهم الفرص للأخذ بالثأر منه، و لو كان القتل من جهة الشرك ... و لهذه الغريزة المطبوعة عليها جبلة الناس كان عمر بن الخطاب يقول لسعيد بن العاص و قد اجتمع عنده في بعض الليالي هو و عثمان و علي و ابن عباس، ما لك معرضا عني كأني قتلت أباك! إني لم أقتله و لكن أبا حسن قتله، فقال أمير المؤمنين اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه و محا الإسلام ما قبله ، فلماذا تهيج القلوب يا عمر؟! فقال سعيد : لقد قتله كفؤ كريم و هو أحب إليّ من أن يقتله من ليس من عبد مناف‏ «6».
لم يكن من الهين على سعيد قتل أبيه و إن كان كافرا و قتل بسيف الدعوة المحمدية و القاتل شريف جم المناقب و لم يحفزه على إراقة دمه إلا نداء الرب جلّ و علا الموحى به إلى رسول السماء، غير أن الخوف من صارم العدل حتم عليه التظاهر بالرضا مع انحناء أضالعه على أحر من جمر الغضا مرتقبا الفرصة في الأخذ بثأره ، و قد ظهرت نار البغض على لسان ولده عمرو بن سعيد (الأشدق) يوم تولى المدينة من قبل يزيد فلقد واجه ضريح النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بلسان طويل مجاهر بقوله : يوم بيوم بدر يا رسول اللّه! و لما سمع صراخ نساء بني هاشم على سيد شباب أهل الجنة قال : واعية بواعية عثمان‏ «7».
فعبد اللّه بن جعفر يتقد قلبه نارا على ابن ميسون و يود لو تمكنه الفرصة و تأخذ المقادير إلى تدميره و القضاء عليه و على أهله و ذويه ... و مهما يكن ناسيا للأشياء فلا ينسى قتله (أبيّ الضيم) و نجوم الأرض من آل عبد المطلب و البهاليل من صحبه، ثم نكته بالقضيب ثنايا ريحانة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم! و هل يستطيع ابن جعفر و الحالة هذه أن يبصر يزيد و سيفه يقطر من دمائهم و قد صك سمعه إظهاره الشماتة بنبيّ الإسلام :
قد قتلنا القرم من ساداتهم‏ و عدلنا ميل بدر فاعتدل‏

ثم إلى إنكاره الرسالة :
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل‏

وهل ينسى ابن جعفر ليله و نهاره وقوف حرائر النبوة بحالة يتصفح وجوهها القريب و البعيد و أهل المناهل و المعاقل .. و الذي يهون الأمر أن المرسل للحديث هو المدائني (الأموي النزعة و الولاء)، و كتابه مملوء بالأحاديث الرافعة للبيت الأموي و الواضعة من كرامة البيت العلوي لا يلتفت إليها إلا العارف بأخبار الرجال و شخصيات الرواة.
_____________
(1) في الإرشاد للشيخ المفيد و كشف الغمة للأربلي ص 194 أبو السلاسل.
(2) تاريخ الطبري ج 6 ص 218.
(3) أنساب الأشراف ج 4 ص 3.
(4) المستجاد من فعلات الأجواد ص 22.
(5) أسد الغابة ج 3 ص 97.
(6) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 335 طبع أول مصر و تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 134 ترجمة سعيد بن العاص.
(7) راجع ما تقدم بعنوان (عمرو الأشدق) من كتابنا هذا.