جاء الحديث : إن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين (عليه السلام) اتى عمه أبا عبدالله الحسين (عليه السلام) يخطب إحدى ابنتيه فاطمة وسكينة فقال له ابو عبدالله (عليه السلام) اختار لك فاطمة فهي اكثرها شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) اما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار وفي الجمال تشبه الحور العين واما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح لرجل. إن هذه الكلمة الذهبية من سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) تفيدنا درساً بليغاً عن مكانة ابنته ( سكينة ) من الشريعة المقدسة وان اختها الطاهرة مهما حازت الثناء الغير متناهي لا تبلغ شأوها ولا تجاريها في رهبانية وتجرد عن اللذات وإنقطاع عن الدنيا الفانية وكيف لا تكون كذلك وهي إبنة معدن القداسة عجنت طينتها بماء النزاهة فكانت متأثرة بحسن التربية وكرم الاخلاق فهي مثال السؤدد وقد جللها الشرف مطارفاً من الحياء والعفة فقول الامام الشهيد (عليه السلام) : ( غالب عليها الاستغراق مع الله ) يشير الى ان ابنته الكريمة كانت سابحة بين امواج الفناء في الله سبحانه ( ان لم نقل البقاء بالله ) وقد انعكست في مرآة نفسها لواعج الجلال والجمال الالهى فاينما توجهت لا تجد الا تلك الصفات المنتقشة فيها المعاني القدسية ولا ترى لغيرها كياناً ولا تعتبر لأي جمال خطراً ولا لأي مال معتبراً ولا تحسب ان لسوى ما شاهدته مدكراً.
وإذا كان عشق الانسان يعشي البصر عن غير المعشوق ولا يشعر العاشق بكل ما يلاقيه عند توجه مشاعره نحوه كما لم تشعر النسوة بألم قطع المدية أيديهن عند توجه مشاعرهن نحو الصديق يوسف (عليه السلام) {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فالعشق الحقيقي لمظاهر الجمال الالهي أولى بأن يقف سدا دون ما سواه كما لم يشعر أصحاب الحسين : بما لاقوه من ألم الجروح الدامية بعد تكهربهم بولاء سيد الشهداء وتوجه مشاعرهم نحو الجمال القدسي الآلهي ونزوع أنفسهم الى الغاية القصوى من القداسة. وابنة النبوة « السيدة سكينة » بلغت من عظيم مجاهدة النفس إلى حد لم يبق لها نزوع الا الى صقع القداسة والاندفاع الى مركز الفناء في الله عزوجل وليس لها لفتة الى نواميس الحياة والانعطاف الى لوازم المعاشرة مع الناس فهي بين عبادة وزهادة وتذكير وتفكير وهذا معنى الاستغراق مع الله تعالى.
وكانت من اللاتي شغلتهن الآخرة عن الاولى فلا يرين لغير المولى تعالت آلاؤه كياناً يجلب النظر اليه ولا الى معاشرة من ليست هي مثلها في السلوك والرياضة.
وكان ما شاهدته السيدة سكينة « حق اليقين » وهو أرقى مراتب السالكين فان أهل الكشف والسلوك بعد أن عرفوا اليقين بأنه الاعتقاد المطابق للواقع الثابت الذي لا يزول وهو في الحقيقة مؤلف من علمين : علم بالواقع وعلم بمحالية خلافه ذكروا له مراتب ثلاثة فانه ان حصل من الاستدلال والنظر كالعلم الحاصل بوجود النار من الدخان سموه « علم اليقين ».
وان حصل بالكشف والمشاهدة كمعاينة جرم النار وكالكشف الحاصل للخلص من المؤمنين الذين اطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا بمعاينة قلوبهم ان الله نور السموات والأرض سموه « عين اليقين ».
وإن حصل بالاتصال المعنوي لأهل الشهود والفناء الذين لا يرون في الوجود شيئاً الا ( ذات الحق ) تعالى شأنه كما قال سيد العارفين اميرالمؤمنين (عليه السلام) لو كشف الغطا ما ازددت يقيناً سموه ( حق اليقين ).
وقد أشار الكتاب العزيز الى هذه المراتب فقال سبحانه : ( كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ) يريد جل شأنه انه لو حصل الاستدلال بالطرق الصحيحة والنظر فيما ورد من الآيات والروايات بوجود ما أعد الله للعاصين لحصل العلم اليقيني بوجود النار الكبرى ثم ترتقي الحالة الى الكشف عنها حتى كأنهم يشاهدونها بنفسها. وهو المراد من قوله تعالى بعد ذلك : ثم لترونها عين اليقين.
واما المرتبة الثالثة التي أشار اليها بقوله تعالى : {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 92 - 95] فلا تحصل الا لمن نظر إليها بواسطة تجرده عن العوارض وتخلية نفسه عن الشهوات وانقطاعه عن عالم الملك الزائل .
وان ابنة النبوة حازت أرقى هذه المراتب التي اخبر عنها الامام الحجة الواقف على سرائر العباد بقوله : ( غالب عليها الاستغراق مع الله ) فان الاستغراق هنا عبارة عن الفناء في بحر العظمة الالهية بحيث لا تكون لها لفتة لوازم الحياة وعوارض الدنيا الفانية.
ومن اجل ذلك أخذت بمجامع قلب ابيها وزاد حنوه عليها حتى استحقت ان يصفها المعصوم بخيرة النساء لما وقف عليها يوم الطف ورآها منحازة عن النسوة باكية نادبة فقال (عليه السلام):
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثمان
فاذا قتلـت فانت اولى بالذي تأتيـنه يـا خيـرة النسوان
وهل من المعقول ان حجة الله يخبر عن مبلغ ابنته من الدين وسلوكها مع الله تعالى ثم يصفها بخيرة النساء وهو يعلم انها مارقة عن صراط الشريعة ومتنكبة عن سبيل الحق او انها تمرق عنه ؟ كلا.
{فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18] .