هو الإمام الرابع في سلسلة الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) تلك الشموس الربانية والأنوار الإلهية التي أضاءت بإيمانها وأقوالها وأفعالها طريق الحياة للبشرية جمعاء لتهتدي إلى الله سبحانه وتعيش الحياة من موقع العبودية والطاعة ، وقد أبلوا في ذلك البلاء الحسن، وتحملوا في سبيل هذا الهدف كل أنواع الأذى والضيق فحفظوا بذلك دين الله وسنة نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
لقد عاش الامام السجاد ( عليه السلام ) حياته كلها على أنها كربلاء ، كانت معه في حِلّه وترحاله، كانت تمتزج مع طعامه وشرابه، وكانت جزءاً لا يتجزأ من علاقته بالناس، لأنه كان يرى أن كربلاء ليست قضية الحسين (عليه السلام) كأب له فقط أو كشخصٍ عزيزٍ عليه ، وإنما كان يراها على أنها قضية الإسلام كله وقضيّة الرسالة الإلهية كلها، ولهذا لم تنتهِ كربلاء عنده بانتهاء المعركة ، بل إنها بدأت منذ تلك اللحظة التي سقط فيها الحسين ( عليه السلام ) شهيداً مضرجاً بدمه على رمال الصحراء اللاهبة.
فصحيح أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد سقط شهيداً ، إلاَّ أن ذلك أوجب مسؤولية كبيرة جداً، وهي إيصال صوت الإمام (عليه السلام) إلى الأمة الإسلامية كلها لتعلم أسباب الاستشهاد وظروفه لتستفيق بذلك على حقيقة المؤامرة التي تُحاك ضد الإسلام والأمة معاً.
وهكذا تشاء القدرة الإلهية أن يكون الإمام السجاد (عليه السلام) مريضاً يوم المعركة، مع أن الروح المحمدية العلوية الحسينية لم تكن تسمح له بالنظر إلى مصارع أولئك الأصحاب والأهل، فتحامل على مرضه واستقوى عليه متكئاً على عصا يريد الخروج إلى الميدان بعد أن خلت الساحة من الناصر والمعين، إلاَّ أن سيد الشهداء ( عليه السلام ) عندما رأى منه ذلك أمر النساء من أهل بيته بإعادته إلى فراشه فهناك واجب اخر ثقيل لا يقدر على حمله غيره في مرحلة ما بعد الحسين ( عليه السلام ) فالقضية ليست قضية إرادة استشهاد بل هي أكبر من ذلك ، ودم الحسين ( عليه السلام ) مع من سقطوا معه شهداء كفيلٌ بالنهوض بالأمة إذا وصل صوت كربلاء الرافض للظلم إلى الأسماع، وهناك خط الإمامة الذي لا ينبغي أن تخلو منه أرض الله سبحانه وتعالى لأنه الضمانة لاستمرار الحياة البشرية وهذا الخط وإن كان مكفول البقاء بعد كربلاء بالإمام الباقر ( عليه السلام ) الذي كان طفلاً صغيراً إلاَّ أن هذا كان يعني أن يتأخر إسماع الصوت الحسيني الثائر الشهيد حتى يصل الإمام الباقر ( عليه السلام ) إلى السن التي يتمكَّن فيها من القيام بمسؤوليات الإمامة ومقتضياتها، وفي هذا على احتمال كبير ضياع دم الحسين عليه السلام ونسيان كربلاء من عقول وقلوب أبناء الأمة مما يعطي الفرصة لبني أمية أن يوجّهوا الضربة القاضية للإسلام ساعتئذٍ، ولهذا كان مرض الإمام السجاد (عليه السلام) طريقاً لعدم استشهاده وليقوم بمهمة تبليغ الرسالة الحسينية.
ولم يَطُلِ الأمر بالإمام السجاد ( عليه السلام ) للقيام بتلك المهمة ومن موقع الأسر والتقييد بالأغلال في العنق واليدين، فكانت خطبته وكلماته في الكوفة والشام، وكانت مواجهاته ومناظراته مع أمراء السوء قد صارت على كل شفة ولسان تنتقل من بيت إلى بيت، ومن بلدٍ إلى بلد ، تخبر عن فظاعة الجريمة النكراء التي ارتكبها بنو أمية بحق أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالموقف الأول للإمام السجاد ( عليه السلام ) كان في الكوفة، عندما تجمَّعت الناس لرؤية السبايا من نساء أهل البيت ( عليهم السلام ) حيث خطب بالناس قائلاً :
" أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا من انتُهكت حرمته، وسُلبت نعمته ، وانتُهب ماله ، وسُبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من قُتِل صبراً وكفى بذلك فخراً... " .
والموقف الثاني وهو الأقوى من سابقه كان في قصر الإمارة حيث اللعين ابن زياد الذي بادر الإمام ( عليه السلام ) قائلاً له: ما اسمك؟ قال ( عليه السلام ) : علي بن الحسين عليه السلام، فقال له: أولم يقتل الله علياً؟ فقال الإمام عليه السلام: " كان لي أخ أكبر مني يسمَّى علياً قتله الناس " ، فردَّ عليه ابن زياد بأن الله قتله، فقال الإمام (عليه السلام) :
" الله يتوفى الأنفس حين موتها وما كان لنفسٍ أن تموت إلاَّ بإذن الله " ، هذا الجواب الذي هزَّ ابن زياد من الأعماق، إذ كيف يجرؤ هذا الانسان الأسير بين يديه على تحدِّيه بتلك الصراحة وبذلك الوضوح ، ولهذا انفجر غضباً وأمر بقتل الإمام ( عليه السلام ) إلاَّ أن الله حماه بعمّته زينب (عليها السلام) فقال الإمام ساعتئذٍ :
" أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة " ، فهذا الموقف يدل بالقطع واليقين أن بقاء الإمام ( عليه السلام ) حياً وعدم استشهاده في كربلاء كان لحكمة إلهية بالغة، لكي تصدر هذه المواقف الفاضحة للأمويين التي تعريهم أمام الأمة وتسقط كل ادعاءاتهم المزيّفة والكاذبة.
والموقف الثالث من تلك المواقف هو ما جرى بينه وبين يزيد اللعين في الشام عندما سأله اللعين كيف رأيت صنع الله يا علي بأبيك الحسين عليه السلام؟ قال عليه السلام: " رأيت ما قضاه الله عزَّ وجلَّ قبل أن يخلق السموات والأرض " واستشار يزيد جلاوزته في أمر الإمام ( عليه السلام ) فأشاروا عليه بقتله فأجابهم الإمام ( عليه السلام ) وأجابه معهم: " يا يزيد لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار به جلساء فرعون عليه... " فأمسك يزيد عن قتله، فاغتنم الإمام ( عليه السلام ) حينها الفرصة وطلب الإذن في مخاطبة الناس، فأذن له مكرهاً، فقال الخطبة المعروفة التي بدأها بحمد الله وتفضيل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سائر العالمين بالخصال الموجودة فيهم... ثم قال (عليه السلام) :
" أنا ابن المرمّل بالدماء ، أنا ابن ذبيح كربلاء ، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء ، وناحت الطير في الهواء " عند هذا المقطع ضجَّت الناس بالبكاء والعويل وأدركوا الخدعة الكبرى واكتشفوا من خلال كلمات الإمام ( عليه السلام ) المكر الذي مكره يزيد وبنو أمية ، فخشي يزيد عندها افتتان الناس بالإمام ( عليه السلام ) فأمر المؤذّن بأن يؤذّن للصلاة حتى يتخلَّص من ذلك الإحراج.
وبذلك نرى أن الحكمة الإلهية قد لعبت دورها في إنقاذ الإمام (عليه السلام) من القتل في كل تلك المواقف، وما ذاك إلاَّ من أجل أن يصل صوت الحسين ( عليه السلام ) إلى كل أبناء الأمة ، ومن أجل أن تلفح حرارة دمائه العزيزة على الله كل وجوه المسلمين ليثوروا على بني أمية الطلقاء الذين توصّلوا بالمكر والحيلة والنفاق إلى أن يتسلموا الحكم ويتلاعبوا بمقدرات الأمة الإسلامية ومصيرها.
ولم يمر وقت طويل على كربلاء ، إلاَّ وقامت الثورات ضد الحكم الأموي ، من كل مكان، ولا شك بأن الإمام السجاد ( عليه السلام ) لعب دوراً كبيراً في ذلك من خلال سيرة حياته الشريفة التي لم تغب كربلاء لحظة من لحظاتها عنها، فأثبت في وجدان الأمة وعقلها قضية الحسين ( عليه السلام ) لذي ثار من أجل قضية الحق السليب وأن يكون نوراً للأمة تهتدي به وتنعم ، بدلاً من أن يكون الحق بيد حفنة من الأدعياء يستغلونه لمصالحهم النفعية الضيقة على حساب الأمة كلها.
لقد أدخل الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كربلاء إلى عمق الشعور عند المسلم فجعلها جزءاً من كل مفردة من مفردات حياتهم ، فإذا أكلوا تذكّروا جوع الحسين ( عليه السلام ) وإذا شربوا تذكَّروا عطش الحسين ( عليه السلام ) وإذا خلدوا إلى الراحة تذكَّروا تعب الحسين ( عليه السلام ) ومعاناته ، وبذلك تحوَّلت كربلاء بفعل الإمام السجاد ( عليه السلام ) وطريقته الخاصة إلى أسلوب حياة لدى قسم كبير من أبناء الأمة الإسلامية مما مهَّد بالتالي لكل حركة الثورات التي أسقطت في النهاية الدولة الأموية وقضت على أحلامهم الخبيثة ونواياهم الشرّيرة المنحرفة.