لم يفتأ لقمر بني هاشم دؤب على مناصرة الحقّ في شمم وإباء عن النّزول على حكم الدنيّة ، منذ كان يرتضع لبان البسالة ، وتربّى في حجر الإمامة ، فترعرع ونُصبَ عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النّواميس الإلهيّة ، لمطاردة الرجال ومجالدة الأبطال ؛ فإمّا فوز بالظفر أو ظفر بالشهادة ، فمن الصعب عنده النّزول على الضيم ، وهو يرى الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياة تحت الاضطهاد ، فكان لا يرى للبقاء قيمةً و( إمام الحقّ ) مكثور ، وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كُلَّ مبلغ .
ولكنْ لمّا كان ـ سلام اللّه عليه ـ أنفس الذخائر عند السّبط الشهيد (عليه السّلام) وأعزّ حامته لديه ، وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر ، ولوائه الخفاق وبطولتِهِ المعلومة ، لم يأذن له إلى النّفس الأخير من النّهضة المُقدّسة ، فلا الحسين (عليه السّلام) يسمح به ، ولا العائلة الكريمة تألف بغيره ، ولا الحالة تدعه لأنْ يُغادر وحرائر أبيه بين الوحوش الكواسر .
هكذا كان أبو الفضل بين نزوعٍ إلى الكفاح بمقتضى غريزته ، وتأخّرٍ عن الحركة لباعثٍ دينيٍّ وهو طاعة الإمام (عليه السّلام) ، حتّى بلغ الأمر نصابه ، فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ ، وكان مِلْءُ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارة ، ومن البلاء المُقبل اُخرى ، ( ومركز الإمامة ) دارت عليه الدوائر ، وتقطّعت عنه خطوط المدد ، وتفانى صحبه وذووه .
هنالك هاج ( صاحب اللّواء ) ـ ولا يلحقه الليث عند الهياج ـ فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه ، فلم يجد أبو عبد اللّه (عليه السّلام) بُدّاً من الإذنْ ، حيث وجد نفسه لَتسبق جسمه ؛ إذ ليس في وسعه البقاء على تلك الكوارث المُلمّة من دون أنْ يأخذ ثأره من اُولئك المَرَدة ، فعرّفه الحسين (عليه السّلام) أنّه مهما ينظر اللّواء مرفوعاً كأنّه يرى العسكر مُتّصلاً والمدد مُتتابعاً ، والأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه ، وحرائر النّبوَّة مُطمئنة بوجوده ، فقال له) : أنتَ صاحبُ لوائِي ، ولكنْ اطلبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً مِن الماءِ.(
فذهب العبّاس (عليه السّلام) إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار ، فلم ينفع ، فرجع إلى أخيه وأخبره ، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش ، فنهضت بـ ( ساقي العِطاشى ) غيرته الشمّاء وأخذ القربة ، وركب فرسه وقصد الفرات ، فلم يرعه الجمع المُتكاثر ، وكشفَهم شبلُ عليٍّ عن الماء ومَلَك الشريعة ، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسين (عليه السّلام) ، فرأى من واجبه ترك الشرب ; لأنّ الإمام (عليه السّلام) ومَن معه أضرّ بهم العطش ، فرمى الماء من يده وأسرع بالقربة محافظاً على مهجة الإمام (عليه السّلام) ولو في آن يسير ، وقال(1) :
يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني وبـعدَهُ لا كُـنتِ أنْ تكوني
هـذا الـحُسينُ واردُ المنونِ وتـَشْـرَبينَ بـاردَ الـمعينِ
تـاللّهِ مـا هـذا فعالُ دينِي
فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه ، فلم يُبالِ بهم ، وجعل يضرب فيهم بسيفه ، ويقول :
لا أرْهبُ المَوتَ إذا الموتُ زقا حتّى اُوارَى في المصاليتِ لَقَى
إنِّـي أنَـا العبّاسُ أغْدو بالسّقا ولا أهـابُ المَوتَ يومَ المُلتَقَى
فكمنَ له زيد بن الرقّاد الجهني ، وعاونه حكيم بن الطفيل السّنبسي ، فضربه على يمينه فقطعها ، فأخذ السّيف بشماله وجعل يضرب فيهم ، ويقول :
واللّهِ إنْ قَطعتُمُ يَمينِي إنّي اُحامِي أبداً عَنْ دِينِي
وعَـنْ إمامٍ صادقِ اليَقينِ نجلِ النَّبيِّ الطَّاهرِ الأمينِ
فكمنَ له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة ، فضربه على شماله فبراها ، فضمّ اللّواء إلى صدره .
فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه ، وأتته السّهام كالمطر ؛ فأصاب القربة سهمٌ واُريق ماؤها ، وسهمٌ أصاب صدره ، وسهمٌ أصاب عينه ، وحمل عليه رجلٌ بعمودٍ من حديد وضربه على رأسه المُقدّس .
وَهوَى بِجَنبِ العَلقميِّ فَلَيتَهُ لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العَلْقمُ
ونادى بصوت عالٍ : عليك منّي السّلام يا أبا عبد اللّه (2) . فأتاه الحسين (عليه السّلام) ، ويا ليتني علمتُ بماذا أتاه ، أبحياة مُستطارة منه بذلك الفادح الجلل ، أو بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب !
نعم ، حل الحسين (عليه السّلام) عنده وهو يُبصر هيكل البسالة وقربان القداسة فوق الصعيد ، وقد غشيته الدِّماء السّائلة وجلّلته النّبال ، ورأى ذلك الغصن الباسق قد ألمّ به الذبول ، فلا يمينٌ تبطش ولا منطقٌ يرتجز ، ولا صولةٌ ترهبُ ولا عينٌ تُبصر ، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدّدٌ .
أصحيح أنّ الحسين (عليه السّلام) ينظر إلى تلكم الفجائع ومعه حياة تقدمه ، أو عافية تنهض به ؟ لا واللّه ، لم يبقَ الحسين (عليه السّلام) بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة ، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله : ( الآن انكسرَ ظَهرِي ، وقلَّتْ حِيلَتِي ، وشمتَ بِي عدوِّي) .
وبـانَ الانكسارُ فِي جبينِهِ فـاندكّتْ الجِبالُ مِنْ حَنينِهِ
كـافلُ أهلِهِ وساقِي صبْيتِهْ وحـاملُ اللِّوا بعالِي همَّتِهْ
وكيفَ لا وهوَ جمالُ بهجتِهْ وفـي مُحيَّاهُ سرورُ مُههْ
ورجع إلى المُخيّم مُنكسراً حزيناً باكياً يُكفكف دموعه بكُمِّه كي لا تراه النّساء(3) ، وقد تدافعت الرِّجال على مخيمه ، فنادى بصوت عالٍ) : أمَا مِنْ مُجيرٍ يُجيرُنا ؟ أمَا مِنْ مُغيثٍ يُغيثُنا ؟ أمَا مِنْ طالبِ حقٍّ يَنصُرُنا ؟ أمَا مِنْ خائفٍ مِنَ النّارِ فيذبُّ عنّا ؟) .
كُلّ هذا لإبلاغ الحُجّة ، وإقامة العذر حتّى لا يعتذر أحدٌ بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين .
ولمّا رأته سُكينة مُقبلاً أخذت بعنان جواده ، وقالت : أينَ عمّي العبّاس ، أراه أبطأ بالماء ؟ فقال لها : (إنَّ عمَّكِ قُتلْ) . فسمعته زينب فنادت : وا أخاه ! وا عبّاساه ! وا ضيعتنا بعدك ! وبكين النّسوة وبكى الحسين (عليه السّلام) معهنّ ، ونادى) : وا ضيْعَتَنا بعدَكَ أبا الفضلِ) .
ــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 45 / 42 ، مقتل الحسين لأبي مخنف / 179 ، ينابيع المودّة لذوي القربى للقندوزي 3 / 67 .
(1) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي 3 / 68 .
(1) بحار الأنوار 45 / 42 .