صعد بكر به و هو يكبر و يستغفر اللّه و يصلّي على رسوله و يقول: اللهم احكم بيننا و بين قوم غرونا و كذبونا و خذلونا.
فاشرف بكر بن حمران لعنه اللّه به على موضع الحذّائين، فضرب عنقه و ألقى رأسه من فوق القصر على الارض ثم أتبع جسده رأسه ، و رجع مرتعشا خائفا الى ابن زياد، فسأله اللعين عن سبب خوفه؟ فقال له: لما أردت قتله رأيت رجلا أسودا عظيما واقفا أمامي، يعض أصابعه، فأصابتني دهشة لم تصبني قبلها قط، فقال له: انّك قد تخيلت و غلبك الخوف لانّك فعلت شيئا لم تعهده من قبل .
فطلب ابن زياد هاني ليقتله و كلّما سعى محمد بن الاشعث و غيره في شفاعته لم ينفع معه فأمر أن يخرجوه الى السوق فجاؤوا به الى مكان من السوق يباع فيه الغنم و هو مكتوف، فجعل يقول: وا مذحجاه و لا مذحج لي اليوم، يا مذحجاه يا مذحجاه و أين مذحج؟
و في حبيب السير، انّ هاني بن عروة كان من أشراف الكوفة و اعيان الشيعة، و روي انّه قد ادرك النبي (صلى الله عليه واله)و تشرّف بصحبته و كان يوم قتل ابن تسع و ثمانين سنة .
و جاء في مروج الذهب للمسعودي: انّه كان شيخ مراد و زعيمها يركب في أربعة آلاف دارع و ثمانية الف راجل، و اذ اجابتها (آل مراد) احلافها من كندة و غيرها كان في ثلاثين الف دارع .
فلمّا رأى أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال: أما عصا أو سكين أو حجر أو عظم، يحاجز به رجل عن نفسه، فوثبوا إليه فشدّوه وثاقا، ثم قيل له:
مدّ عنقك، فقال: ما انا بها بسخي و ما انا بمعينكم على نفسي، فضربه مولى لعبيد اللّه تركي يقال له: رشيد بالسيف فلم يصنع شيئا، فقال هاني:
«الى اللّه المعاد اللهم الى رحمتك و رضوانك».
ثم ضربه أخرى فقتله ، فلما استشهد مسلم و هاني أمر ابن زياد بقتل عبد الاعلى الكلبي و كان من شجعان الكوفة و قد نصر مسلم لما خرج فأسره كثير بن شهاب- و كذلك أمر بقتل عمارة بن صلخة الازدي من انصار مسلم- فجاؤوا بهما فقتلوهما .
روي في بعض كتب المقاتل المعتبرة انّه: أمر ابن زياد بجرّ جثة مسلم و هاني في الأزقّة و الاسواق و أن يصلبا في السوق الذي يباع فيه الغنم، و قال سبط بن الجوزي:
و صلبت جثة مسلم بالكناسة .
فلما رأت مذحج ما فعل بسيّدها تحركوا و ذهبوا الى جثته و جثة مسلم فأنزلوهما و صلّوا عليهما ثم دفنوهما.
ثم كتب ابن زياد كتابا الى يزيد اللعين و أرسل معه رأس مسلم و هاني و أخبره خبرهما، فلمّا وصل رأساهما فرح يزيد كثيرا و أمر بهما أن يوضعا على باب دمشق، فكتب الى ابن زياد و مدحه على فعاله و انعم عليه و تلطف إليه كثيرا و ذكر له:
انّه قد بلغني ان حسينا توجه الى العراق فضع المناظر و المسالح و احترس و احبس على الظنة و اقتل على التهمة و اكتب إليّ فيما يحدث من خبر، و السلام.
و كان خروج مسلم رحمه اللّه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة و قتل يوم الاربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة .
كانت أمّ مسلم بن عقيل، أمّ ولد يقال لها: علية و كان عقيل اشتراها من الشام فولدت له مسلما .
يقول المؤلف:
لم أر عدد أولاد مسلم في كتاب لكني ظفرت بأسماء خمسة منهم، الاول (عبد اللّه) بن مسلم و هو أوّل شهيد من أولاد ابي طالب في وقعة الطف بعد عليّ الاكبر، و امّه رقية بنت امير المؤمنين (عليه السلام) الثاني (محمد)، و امّه أمّ ولد، و استشهد بكربلاء عقيب عبد اللّه، ثم محمد و ابراهيم- برواية كتب المناقب القديمة- و امّهما من بنات جعفر الطيار، و سيأتي ذكر حبسهما و قتلهما، الخامس: بنت عمرها ثلاث عشرة سنة على رواية اعثم الكوفي كانت مع بنات الحسين (عليه السلام) في سفرهم الى كربلاء (و سيأتي ذكرها).
و اعلم انّ مسلم بن عقيل كان ذا فضائل كثيرة و لا يسع المقام ذكرها، و يكفي لبيان جلالته الحديث الذي مضى في الفصل الخامس في الباب الاول، و يكفيه فخرا و شرفا ما كتبه الامام الحسين (عليه السلام) في حقّه في الكتاب الذي أرسله بيده الى أهل الكوفة.
و يقع قبره الشريف جنب مسجد الكوفة و هو مزار الحاضر و البادي و القاصي و الداني، (1) و قد ذكر له السيد بن طاوس زيارتين، ذكرتهما في كتابي (هدية الزائرين)، و قبر هاني رحمه اللّه مقابل قبر مسلم و قد رثاهما عبد اللّه بن الزبير الاسدي في قصيدة صدرها:
فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري الى هاني في السوق و ابن عقيل
و انّي لأستحسن قول بعض السادة الاجلاء في رثاء مسلم بن عقيل:
سقتك دما يا بن عم الحسين مدامع شيعتك السافحة
و لا برحت هاطلات الدموع تحيّيك غادية رائحة
لأنّك لم ترو من شربة ثناياك فيها غدت طائحة
رموك من القصر إذ أوثقوك فهل سلمت فيك من جارحة
تجرّ بأسواقهم في الحبال أ لست أميرهم البارحة
أ تقضي و لم تبكك الباكيات أ ما لك في المصر من نائحة
لئن تقض نحبا فكم في زرود عليك العشيّة من صائحة