كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) داخلا فخرج و معه خرقة يمسح بها دموعه، و خلفه خادم معه كرسيّ ، فوضعه له و جلس عليه و هو لا يتمالك عن العبرة، و ارتفعت أصوات الناس بالبكاء و حنين النسوان و الجواري و الناس يعزّونه من كل ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة، فأومأ بيده أن أسكتوا فسكنت فورتهم.
فقال: الحمد للّه رب العالمين، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى، و قرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الامور، و فجائع الدهور، و ألم الفجائع، و مضاضة اللّواذع، وجليل الرّزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.
أيّها القوم انّ اللّه و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة و ثلمة في الاسلام عظيمة قتل أبو عبد اللّه الحسين (عليه السلام) و عترته و سبي نساؤه و صبيته، و داروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان و هذه الرزية التي لا مثلها رزية.
أيّها الناس فأيّ رجالات منكم تسرّون بعد قتله؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أية عين منكم تحبس دمعها و تضنّ عن انهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، و بكت البحار بأمواجها، و السماوات بأركانها، و الارض بأرجائها، و الاشجار بأغصانها، و الحيتان و لجج البحار و الملائكة المقربون و أهل السماوات أجمعون.
يا أيّها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحن إليه؟ أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام و لم يصم.
أيّها الناس، اصبحنا مطرودين مشردين مذودين و شاسعين عن الأمصار، كانّا أولاد ترك و كابل من غير جرم اجترمناه و لا مكروه ارتكبناه و لا ثلمة في الاسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين ان هذا الّا اختلاق، و اللّه لو انّ النبي (صلى الله عليه واله)تقدم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فانّا للّه و انّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها، و أوجعها، و أفجعها و أكظّها، و أفظعها، و أمرّها، و أفدحها، فعند اللّه نحتسب فيما أصابنا و ما بلغ بنا فانّه عزيز ذو انتقام.
قال الراوي: فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان- و كان زمنا- فاعتذر إليه صلوات اللّه عليه بما عنده من زمانة رجليه، فأجابه بقبول معذرته و حسن الظن فيه و شكر له و ترحم على ابيه .
ثم ساروا حتى قدموا المدينة فلما رأى عليّ بن الحسين (عليه السلام) المرقد المطهّر و الضريح المنوّر لرسول اللّه (صلى الله عليه واله)صاح: وا جدّاه وا محمداه، قتلوا الحسين عطشانا و سبوا نساءه و لم يرحموا الصغير و لا الكبير، فعلا صوت البكاء و العويل مرّة أخرى.
و حكي انّ زينب أخذت بعضادتي باب المسجد و نادت: يا جدّاه انّي ناعية إليك أخي الحسين، و هي مع ذلك لا تجف لها عبرة و لا تفتر من البكاء و النحيب و كلما نظرت الى عليّ بن الحسين (عليه السلام) تجدد حزنها و زاد وجدها .
روى الطبري عن الباقر (عليه السلام) انّه قال: ... فجهّزهم و حملهم الى المدينة، فلمّا دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها واضعة كمها على رأسها تلقاهم و هي تبكي و تقول:
ما ذا تقولون ان قال النبيّ لكم ما ذا فعلتم و أنتم آخر الامم
بعترتي و بأهلي بعد مفتقدي منهم أسارى و قتلى ضرّجوا بدم
ما كان هذا جزائي اذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي