انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

قبل أن أتحدّث عن ولادة أبي الفضل العباس (عليه السلام) ونشأته أعرض ـ بإيجاز ـ إلى نسبه الوضّاح ، ذلك النسب الكريم الذي كان له الأثر التام في بناء شخصيته العظيمة ، وتكوين سلوكه المشرّف القائم على الشرف والفضيلة وفيما يلي ذلك :
نسبه الوضّاح
ليس في دنيا الأنساب نسبٌ أسمى ، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الأسرة العلوية ، التي هي من أجلّ وأشرف الأسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها ، تلك الأسرة العريقة في الشرف والمجد ، التي أمدّت العالم العربي والإسلامي بعناصر الفضيلة ، والتضحية في سبيل الخير ، وما ينفع الناس ، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى ، والإيمان ، وهذا عرض موجز للاَصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم ، وفخر عدنان منها.
الأب :
أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس (عليه السلام) فهو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وصيّ رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وباب مدينة علمه ، وختنهُ على حبيبته ، وهو أول من آمن بالله ، وصدّق رسوله وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو بطل الإسلام ، والمنافح الأول عن كلمة التوحيد ، وقد قاتل الأقربين والأبعدين من أجل نشر رسالة الإسلام وإشاعة أهدافه العظيمة بين الناس ، وقد تمثلت بهذا الإمام العظيم جميع فضائل الدنيا ، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه ، وهو ـ بإجماع المسلمين ـ أثرى شخصية علمية في مواهبه وعبقرياته بعد الرسول محمد (صلى الله عليه واله) ، وهو غنّي عن البيان والتعريف ، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الأرض ... ويكفي العباس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الإمامة ، وأخ لسبطي رسول الله (صلى الله عليه واله).
الاُم :
أمّا الأم الجليلة المكرّمة لأبي الفضل العباس (عليه السلام) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد .. ، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب ، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الأضياف ، وأما أسرتها فهي من أجلّ الأسر العربية ، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة ، وقد أشتهر جماعة بالنبل والبسالة منهم :
1 ـ عامر بن الطفيل :
وهو أخو عمرة الجدة الاولى لأم البنين ، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه ، وقد ذاع اسمه في الأوساط العربية وغيرها ، وبلغ من عظيم شهرته ان قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب فان كان بينه وبين عامر نسب عظم عنده ، وبجّله وأكرمه ، وإلاّ أعرض عنه.
2 ـ عامر بن مالك :
وهو الجدّ الثاني للسيّدة أمّ البنين ، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ولُقّب بملاعب الأسنّة لشجاعته الفائقة ، وفيه يقول الشاعر :
يلاعب أطراف الأسنة عامر
فراح له حظّ الكتائب أجمع
وبالإضافة إلى شجاعته فقد كان من أُباة الضيم ، وحفظة الذمار ومراعاة العهد ، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك.
3 ـ الطفيل :
وهو والد عمرة الجدّة الأولى لأمّ البنين كان من أشهر شجعان العرب ، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب ، منهم ربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية ، ويقال لأمّهم ( أمّ البنين ) وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي ، وكان عدوّاً وخصماً لهم ، فاندفع لبيد وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان :
يا واهب الخير الجزيل من سعة
حن بنو أمّ البنيـن الأربعة

ونحن خير عامر بن صعصعة
المطعمون الجفنـة المدعدعة

الضاربون الهام وسط الحيصعة
إليك جاوزنا بـلاداً مسبعـة

تخبر عن هـذا خبيراً فاسمعه
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه

فتأثّر النعمان للربيع ، وأقصاه عن مسامرته ، وقال له :
شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا
كثر عليَّ ودع عنك الأباطيلا


قد قيل ذلك إن حقاً وان كذبا
فما اعتذارك في شيء إذا قيلا

ودلّ ذلك على عظيم مكانتهم ، وسموّ منزلتهم الاجتماعية عند النعمان فقد بادر إلى اقصاء سميره الربيع عن مسامرته.
4 ـ عروة بن عتبة :
وهو والد كبشة الجدّة الثانية لأم البنين ، وكان من الشخصيات البارزة في العالم العربي ، وكان يفد على ملوك عصره ، فيكرّمونه ، ويجزلون له العطاء ، ويحسنون له الوفادة (1).
هؤلاء بعض الأعلام من أجداد السيّدة الكريمة أمّ البنين ، وقد عرفوا بالنزعات الكريمة ، والصفات الرفيعة ، وبحكم قانون الوراثة فقد انتقلت صفاتهم الشريفة إلى السيّدة أمّ البنين ثم منها إلى أبنائها الممجدين.
قِران الإمام بأمّ البنين :
ولما ثكل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بوفاة بضعة الرسول 9 وريحانته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء 3 ندب أخاه عقيلاً ، وكان عالماً بأنساب العرب أن يخطب له امرأة قد ولدتها الفحول ليتزوّجها لتلد غلاماً زكياً شجاعاً لينصر ولده أبا الشهداء في ميدان كربلاء (2) فأشار عليه عقيل بالسيّدة أمّ البنين الكلابية فانّه ليس في العرب من هو أشجع من أهلها ، ولا أفرس ، وكان لبيد الشاعر يقول فيهم : « نحن خير عامر بن صعصعة » فلا ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الأسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة (3) ، فندبه الإمام إلى خطبتها ، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الأمر فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر ، وزفّت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد رأى فيها العقل الراجح ، والإيمان الوثيق وسموّ الآداب ، ومحاسن الصفات ، فأعزّها ، وأخلص لها كأعظم ما يكون الإخلاص.
رعايتها لسبطيّ النبيّ 9 :
وقامت السيّدة أمّ البنين برعاية سبطي رسول الله 9 وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين 8 ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين فقد توفّيت ، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين 8 ما لا تكّنه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله 9 ، على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لأبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم وهما وديعة رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وريحانتاه ، وقد عرفت أمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.
مكانتها عند أهل البيت
ولهذه السيّدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت : ، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للإمام الحسين (عليه السلام) ، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيّد الشهداء (عليه السلام) ، يقول الشهيد الأول وهو من كبار فقهاء الإمامية :
كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت : ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحلّ الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة ، كما كانت تعزّيها أيام العيد .. » (4).
أنّ زيارة حفيدة الرسول 9 وشريكة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته زينب الكبرى 3 لأم البنين ، ومواساتها لها بمصابها الأليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها ، مما يدلّ على أهميّة أمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت :.
مكانتها عند المسلمين :
وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين ، ويعتقد الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله ، وانّه ما التجأ إليها مكروب ، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلاّ كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن أو محنة من محن الأيّام ، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند الله ، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها ، وجعلتهم قرابين لدينه.
الوليد العظيم :
وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس (عليه السلام) ، وقد ازدهرت يثرب ، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الأسرة العلوية ، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً نديّاً عاطراً.
وحينما بُشِّر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبيلاً ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الإيمان والتقوى في الأرض ، وأنشودة ذلك الصوت.
« الله أكبر ... ».
« لا إله إلاّ الله ».
وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الأنبياء ، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل ، وانطبعت في دخائل ذاته ، حتى صارت من أبرز عناصره ، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته ، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل (عليه السلام) ، قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش ، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين 8 عملاً بالسنّة الإسلامية.
سنة ولادته :
أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس (عليه السلام) وُلد سنة ( 26 ه‍ ) في اليوم الرابع من شهر شعبان (5).
تسميته :
سمّى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وليده المبارك ( بالعباس ) وقد استشفّ من وراء الغيب انه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام ، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ، ومنطلق البسمات في وجه الخير ، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لأهل البيت : ، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها ، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء ، ويقول الشاعر فيه :
عبست وجوه القوم خوف الموت
والعبّاس فيهـم ضاحـك متبسّم
كنيته :
وكُنِّي سيّدنا العبّاس (عليه السلام) بما يلي :
1 ـ أبو الفضل :
كُنّي بذلك لأن له ولداً اسمه الفضل ، ويقول في ذلك بعض من رثاه : 
أبا الفضل يا من أسّس الفضل والإبا
أبى الفضل إلاّ أن تكون له أبا
وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يُسمّى بهذا الإسم ، فهو ـ حقّاً ـ أبو الفضل ، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف ، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلاّ كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.
2 ـ أبو القاسم :
كُنّي بذلك لأن له ولداً اسمه ( القاسم ) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدين الله ، وفداءً لريحانة رسول الله 9.
ألقابه :
أمّا الألقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة ، وقد أضيفت على أبي الفضل (عليه السلام) عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة ، وما اتصف به من مكارم الأخلاق وهي :
1 ـ قمر بني هاشم :
كان العبّاس (عليه السلام) في روعة بهائه ، وجميل صورته آية من آيات الجمال ، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم ، وكما كان قمراً لأسرته العلوية الكريمة ، فقد كان قمراً في دنيا الإسلام ، فقد أضاء طريق الشهادة ، وأنار مقاصدها لجميع المسلمين.
2 ـ السقّاء :
وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إليه ، أما السبب في امضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت : حينما فرض الإرهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذرية النبيّ 9 ، محرّر الإنسانية ومنقذها من ويلات الجاهلية ... وقد قام بطل الإسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البيت ، ومن كان معهم من الأنصار ، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته.
3 ـ بطل العلقمي :
أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس (عليه السلام) ، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله 9 وسيّد شباب أهل الجنّة ، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال ، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ ، ويحتلّ ذلك النهر ، وقد قام بذلك عدّة مرّات ، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.
4 ـ حامل اللواء :
ومن ألقابه المشهورة ( حامل اللواء ) وهو أشرف لواء انّه لواء أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) ، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه ، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية ، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده أبو الفضل يرفرف على رأس الإمام الحسين (عليه السلام) منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء ، وقد قبضه بيد من حديد ، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه ، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.
5 ـ كبش الكتيبة :
وهو من الألقاب الكريمة التي تُمنح الى القائد الأعلى في الجيش ، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير ، وقوّة بأس ، وقد اضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل ، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.
6 ـ العميد :
وهو من الألقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لأبرز الأعضاء في القيادة العسكرية ، وقد قُلّد أبو الفضل (عليه السلام) بهذا الوسام لأنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبد الله ، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.
7 ـ حامي الظعينة :
ومن الألقاب المشهورة لأبي الفضل (عليه السلام) ( حامي الظعينة ).
يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها :
حامى الظعينة أين منه ربيعة
أم أين من عليـاً أبيـه مكرم وانّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي ، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ ، وانزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.
ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقب اطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربيعة بن مكرم ، فقد قام بحماية ظعنه ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً (6).
8 ـ باب الحوائج :
وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً ، وانتشاراً بين الناس ، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلاّ قضى الله حاجته ، وما قصده مكروب إلاّ كشف الله ما ألمّ به من محن الأيام ، وكوارث الزمان ، وكان ولدي محمد الحسين ممن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه.
إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسيلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظيم ، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الاسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) حتى استشهد في سبيله هذه بعض ألقاب أبي الفضل ، وهي تحكي بعض معالم شخصيته العظيمة وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الأخلاق (7).
ملامحه :
أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال ، وقد لُقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه ، وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهم (8) ورجلاه يخطان في الأرض (9).
تعويذ أمّ البنين له :
واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكّية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه ، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوذه بالله ، وتقول هذه الأبيات :
أعيـذه بالواحد
من عين كلّ حاسد

قائمهم والقاعد
سلمهم والجاحد

صادرهم والوارد
ولدهم والوالد (10)
مع أبيه :
كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يرعى ولده أبا الفضل في طفولته ، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالإيمان والمثل العليا ، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام ، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة.
كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوسع العباس تقبيلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ويقول المؤرّخون : إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن ساعديه ، فجعل الإمام يقبّلهما ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت أمّ البنين ، وراحت تقول للإمام :
« ما يبكيك ؟ »
فأجابها الإمام بصوت خافت حزين النبرات :
« نظرت إلى هذين الكفّين ، وتذكّرت ما يجري عليهما .. »
وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة :
« ماذا يجري عليهما » ..
فأجابها الإمام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً :
« إنّهما يقطعان من الزند .. »
وكانت هذه الكلمات كصاعقة على أمّ البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة :
« لماذا يقطعان » ..
وأخبرها الإمام (عليه السلام) بأنّهما انّما يقطعان في نصرة الإسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله 9 ، فأجهشت أمّ البنين في البكاء ، وشاركنها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها (11).
وخلدت أمّ البنين إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله (صلى الله عليه واله) وريحانته.
نشأته :
نشأ أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) نشأة صالحة كريمة ، قلّما يظفر بها إنسان , فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض ، فغذّاه بعلومه وتقواه ، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة ، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه ، وانموذجاً لمثله ، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة في نفسه ، جميع صفات الفضيلة والكمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.
ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله 9 الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة ، وأسس الآداب الرفيعة ، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فكان لا يفارقه في حله وترحاله ، وقد تأثّر بسلوكه ، وانطبعت في قرارة نفسه مُثُله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته ، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
انّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية ، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، ورفع رسالة الإسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الإنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة ، والإيثار ، وقد تأثر العباس بهذه المبادئ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال ، فقد غرسها في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه الإمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين : هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع شعوب العالم وأُمم الأرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.
_____________
(1) قمر بني هاشم 1 : 11 ـ 13 ذكر المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه بطل العلقمي عرضاً مفصّلاً لمآثر هذه الأسرة الكريمة.
(2) تنقيح المقال 2 / 128.

(3) تنقيح المقال 2 / 128.
(4) العباس للمقرّم : 72 ـ 73 نقلاً عن مجموعة الشهيد الأول.

(5) قمر بني هاشم 2 : 5.
(6) جاء في العقد الفريد 3 / 331 ان دريد بن الصمة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتى اذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الأخرم ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة فرأوا رجلاً معه ظعينة في ناحية الوادي فقال دريد لفارس من أصحابه امض واستولِ على الظعينة ، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به خلّ عن الظعينة وانج بنفسك ، فألقى زمام الناقة ، وقال للظعينة :
سيري على رسلك سير الآمن
سير دراج ذات جأش طامـن
ان التـأني دون قرني شائني
ابلى بلائي فاخبري وعاينـي
ثم حمل على الرجل فصرعه ، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة ، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلما انتهى إليه رآه صريعاً فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة ، فلما انتهى إليه حمل عليه وهو يقول :
خل سبيل الحـرة المنيعة
انك لاق دونهـا ربيعـة
في كفـه خطيـة منيعة
أو لا فخذها طعنة سريعة
وحمل عليه فصرعه ، ولما أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ولما انتهى إليهما وجدهما صريعين ، والرجل يجر رمحه ، فلما نظر إليه قال للظعينة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه وقال :
ماذا ترى من شيئم عابـس
أما ترى الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه ، وانكسر رمحه ، وارتاب دريد في امر جماعته وظن أنهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم ، وقد دنا ربيعة من الحي ، فوجدهم دريد قد قتلوا جميعاً ، فقال لربيعة : ان مثلك لا يقتل ، ولا أرى معك رمحك ، والخيل ثائرة بأصحابها فدونك هذا الرمح فاني منصرف عنك إلى أصحابي ، ومثبطهم عنك ، فانصرف إلى أصحابه وقال لهم : ان فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي فلا مطمع لكم فيه فانصرف القوم فقال دريد في ذلك :
ما ان رأيت ولا سمعت بمثله
حامي الظعينة فارسـاً لم يقتل
أردى فوارس لم يكونـوا نهزة
ثم استمـر كأنّـه لـم يفعـل
فتهللت تبـدو أسـرة وجهـه
مثل الحسام جلته كفّ الصيقل
يزجى طعينته ويسحب رمحه
مثل البغاث خشين وقع الجندل
(7) جاء في تنقيح المقال 2 / 128 أنه تحدث للعباس ستة عشر لقباً.
(8) الفرس المطهم : هو السمين الفاحش في السمن كما في القاموس وفي المنجد أنه التام الحسن.
(9) مقاتل الطالبيين : 56.
(10) المنمق في أخبار قريش : 437.
(11) قمر بني هاشم 1 : 19.