انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

رافق أبو الفضل العباس (عليه السلام) الثورة الإسلامية الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالمية ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الأرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الانسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبية من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان.
وقد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابية وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً.
لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لأمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثم إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كل موقف من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ، كان العبّاس معه ، وشريكاً له ، .. ونتحدّث ـ عن بعض الفصول التأريخية لهذه الثورة العظمى التي كان العباس العلم البارز فيها.
رفض الامام الحسين لبيعة يزيد :
وأعلن الإمام الحسين (عليه السلام) رسمياً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الإمام ما أراد منه ، فاستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس في خارج الدار فاذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لانقاذه ، ودخل الامام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثم نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامة ومن الحسين خاصة ، فاستمهله الإمام حتى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد :
« لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، أحبسه فان بايع ، وإلاّ ضربت عنقه .. ».
ووثب أبي الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له :
« يا بن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو ؟ ، كذبت والله ولؤمت .. ».
ثم التفت أبو الأحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه ، وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً :
« أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة .. » (1).
لقد أعلن الإمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الامارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم إرهابي عنيف يستهدف إذلالهم ، وإرغامهم على ما يكرهون.
لقد كان أبو الأحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبودية ، وعصف بالعقيدة الإسلامية في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الاعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفيعاً ، ورفع كلمة الإسلام عالية في الأرض.
إلى مكّة المكرّمة :
وصمّم أبو الأحرار على مغادرة يثرب ، والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الأموي الذي يمثّل الجاهلية بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه (صلى الله عليه واله) وهو حزين قد أحاطت به الأزمات فشكى إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى ، ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء أمّه الزكيّة فألقى عليها نظرات الوداع الأخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمد (عليه السلام) ثم توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الأمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه.
وسلك أبو الأحرار في مسيره الطريق العام فأشار عليه بعض من كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة فأجابه بكل شجاعة وثقة في النفس :
« لا والله ما فارقت هذا الطريق ، أو أنظر إلى أبيات مكة حتى يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى .. ».
وانتهى ركب الإمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان وحطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب ، وقد احتفى به المكّيون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم ، كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الإمام (عليه السلام) لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي الديني والسياسي في نفوس زائريه من المكيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الأموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديتهم.
فزع السلطة بمكّة :
وفزعت السلطة المحلّية بمكة من قدوم الإمام إليها ، واتخاذها مقراً لدعوته ، ومركزاً لإعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الأشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الإمام ، وسمع ما يقولونه ان الإمام أولى بالخلافة الإسلامية وأحقّ بها من آل أبي سفيان الذين لا يرجون لله وقاراً ، فخف مسرعاً نحو الإمام فقال له بغيظ :
« ما أقدمك إلى البيت الحرام ؟.. ».
وكأن بيت الله العظيم ملك لبني أميّة ، وليس هو لجميع المسلمين ، فأجابه الإمام بثقة وهدوء :
« أنا عائذ بالله ، وبهذا البيت ... ».
ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الامام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وان ذلك يشكّل خطراً على حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الأشدق فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عباس يتهدّد فيها الحسين على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لإصلاح الأمر وحجب الحسين عن مناهضته ، فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين ، وانه انّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّية في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه.
ومكث الإمام (عليه السلام) في مكّة ، والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الأمويين ، وكانت مباحث الأمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسية ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه.
تحرّك الشيعة في الكوفة :
وحينما أشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته وعقدوا مؤتمراً شعبياً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسية فيها وقد عرضوا بصورة شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل ، في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الإمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الإمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الأموي ويبسط في بلادهم الأمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الإسلامية كما كانت أيّام أبيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان من بين ذلك الوفد عبد الله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الامام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم.
رسائل الكوفة :
ولم يكتف الكوفيون بالوفد الذي بعثوه إلى الإمام ، وانّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وانّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الإسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والإسلام التي هي غاية آمالهم وحملوا الإمام المسؤولية أمام الله والتأريخ إن لم يستجب لدعوتهم.
ورأى الإمام (عليه السلام) أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعية ، وان الواجب يحتّم عليه إجابتهم.
إيفاد مسلم إلى الكوفة :
ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الإمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بُدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وكانت مهمّته خاصة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيين ، ومعرفة أمرهم ، فان صدقوا فيما قالوا توجّه الإمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن.
ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامة بالشؤون النفسية والاجتماعية ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة. ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفوا حوله ، طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للإمام الحسين (عليه السلام) ، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعين وقد أحصي عددهم في الأيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كل يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الإمام بالإسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الأمة ، .. ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتخذ أي اجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للأنصار ، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه.
ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الأمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكماً حازماً يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الأمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون ، وكان دبلوماسياً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الأوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتولّيه الإرهابي عبيد الله بن زياد فانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فاستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لابن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الأوامر المشدّدة بالإسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة ، والقضاء على مسلم.
سفر ابن زياد إلى الكوفة :
وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الإمام الحسين (عليه السلام) ، وحينما أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيين أنّه الامام الحسين ، وقد اعتقدوا بذلك فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك كأشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره ، فيقتل ، ولما انتهى إلى قصر الامارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنه الامام الحسين (عليه السلام) فانبرى يخاطبه بلطف قائلاً :
« ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من ارب » ..
فصاح به ابن مرجانة :
« افتح لا فتحت فقد طال ليلك .. ».

وعرفه بعض من كان خلفه فصاح بالجماهير :
« انّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة .. ».
وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الأمويين أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمد بن الأشعث وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدثونه عن الثورة ، ويعرفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات الرهيبة للقضاء عليها.
ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الأعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصيّة بالعقاب الصارم ثم عمد إلى نشر الخوف والإرهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملأ السجون بالمعتقلين ، واتخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد.
ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وما قام به من الأعمال الإرهابية تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانئ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لأهل البيت : ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ، ورحّب به كأعظم ما يكون الترحيب وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها.
المخطّطات الرهيبة :
واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخططات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسية ، والتغلّب على الأحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخططات التي تمّ تنفيذها ما يلي :
التجسّس على مسلم :
وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسية ، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده من الأحداث ، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكياً ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لأهل البيت : ، وانه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الإمام الحسين (عليه السلام) قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه.
ومضى معقل في مهمته ، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيين في الثورة ، فاتصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لأهل البيت ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فانخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ، وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابن مرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الأحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها.
اعتقال هانئ :
وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخططاته ، فقد قام باعتقال هانئ بن عروة سيد الكوفة ، والزعيم الأوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الأكثرية الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والإرهاب عند جميع الكوفيين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة فقد استولى الرعب والفزع على انصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسية ساحقة وعلى أي حال فان هانئ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده لأنّه أحاط أمره بكثير من السرية والكتمان ، فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل ، فلما حضر سقط ما في يد هانئ وأطرق برأسه إلى الأرض. ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالأسد ساخراً من ابن زياد ومتمرداً على سلطته ، فامتنع كأشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه لأنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثم أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته حتى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثم أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر. انتفاضة مذحج :
ولمّا شاع اعتقال هانئ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الامارة ، وقد قاد جموعها الانتهازي القذر عمرو بن الحجاج ، وهو من أذناب السلطة ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً :
« أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة .. ».
وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لإنقاذ هانئ ، وانّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الأموي فأمره أن يدخل على هانئ ، ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم وانّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ فلما بصر به صاح مستجيراً :
« يا للمسلمين أهلكت عشيرتي !! أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، أيخلوني وعدوهم .. ».
والتفت إلى شريح ، وقد سمع أصوات أسرته قائلاً :
« يا شريح انّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، انّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني .. ».
وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج :
« نظرت إلى صاحبكم ، انّه حي لم يقتل .. ».
وبادر ابن الحجاج عميل الأمويين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً :
« إذا لم يقتل فالحمد لله .. ».
وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما أتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أن هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانئ ،

ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته.
لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً عليها فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الإرهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أن مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة.
ثورة مسلم :
ولما علم مسلم ما جرى على هانئ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى اعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملأ بهم الدور ، فاجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ، كما في رواية أخرى ، وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر « يا منصور أمت .. ».
وقام مسلم بتنظيم جيشه فاسند القيادات العامة إلى من عرفوا بالولاء والإخلاص لأهل البيت : ، وزحف بجيشه نحو قصر الإمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كل من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فأخبر أن مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف وضاقت عليه الدنيا إذ لم تكن عنده قوة عسكرية تحميه سوى ثلاثين شرطياً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للأمويين.
وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الاعلام والسيوف ، ودقّت طبول الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد.
حرب الأعصاب :
وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل ، وأكثرها ضماناً لإنقاذه فرأى أن لا طريق له سوى حرب الأعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف جيش مسلم ، فيذيعون الإرهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الأراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي :
أ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وانّها سوف تنكل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم.
ب ـ ان الحكومة سوف تقطع مرتباتهم وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصادية.
ج ـ إن الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام.
د ـ إن الحكومة ستعلن فيهم الأحكام العرفية ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل اشارات الموت والدمار.
وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم واضطربت قلوبهم ، وجبنوا كأبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم ، وهم يقولون : « ما لنا والدخول بين السلاطين .. ».
ولم يمض قليل من الوقت حتى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة وقصد بهم نحو الجامع الأعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا جميعاً ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أن ولاءهم لأهل البيت : كان عاطفياً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم.
وسار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقية الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارة ، كأنّما أعلن فيها منع التجول ، فقد أغلق الكوفيون عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم للتنكيَل وسوء العذاب.
في ضيافة طوعة :
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الألم العاصف واستبان له انّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وانهى به السير إلى سيّدة كريمة ، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانية وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الأحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت (عليه السلام) ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة :
« ما حاجتك ؟ .. ».
« اسقيني ماءاً .. ».
وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثم جلس فارتابت منه فقالت له :
« ألم تشرب الماء ؟.. ».
« بلى .. ».
« اذهب إلى أهلك ان مجلسك مجلس ريبة .. ».
وسكت مسلم فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ومسلم ساكت ، فذعرت منه ، وصاحت به :
« سبحان الله !! إنّي لا أحلّ لك الجلوس على بابي .. ».
ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات :
« ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلي أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم .. ».
وشعرت المرأة بأن الرجل غريب ، وانّه ذو شأن كبير ، ومكانه عظمى ، وانّه سيقوم بمكافئتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة :
« ما ذاك يا عبد الله ؟!! »
فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً :
« أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني .. ».
فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار :
« انت مسلم بن عقيل ؟. ».
« نعم .. ».
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم وسفير ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وتحمّلت المسؤولية من السلطة بضيافتها له.
وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الأسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الأحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الإمام الحسين (عليه السلام) الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه.
ولم يمض قليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة ، فرأى أمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه الاَيمان والمواثيق بالكتمان ، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الأعراف ، والأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف ، وحمايته من كل مكروه ، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الأخلاقية والانسانية ليس عنده فحسب ، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الإنسان من القيم الكريمة.
وعلى أيّ حال فقد قضى سليل هاشم ليله حزيناً قلقاً مضطرباً ، وقد خلص في معظم الليل إلى العبادة ما بين الصلاة وقراءة القرآن ، فقد أيقن أن تلك الليلة هي آخر آيّام حياته ، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في منامه فأخبره بسرعة اللحاق به ، فعند ذلك أيقن بدنوّ الأجل المحتوم منه.
الإفشاء بمسلم :
ولمّا انبثق نور الصبح بادر بلال إلى قصر الإمارة ليخبر السلطة بمكان مسلم عنده ، وكان الخبيث بحالة من الدهشة تلفت النظر ، فقصد عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث وهو من الأسرة الانتهازية الخبيثة التي طلقت الشرف والمعروف ثلاثاً ، فأسره بالأمر ، فأمره بالسكوت لئلا يسمعه غيره فيخبر ابن زياد فينال منه الجائزة ، وأسرع عبدالرحمن إلى أبيه محمد فأخبره بالأمر الخطير ، وبدت سحنات الفرح والسرور على وجهه ، وفطن ابن مرجانة إلى أن هناك أمراً عظيماً يخصّ السلطة فبادر قائلاً :
« ما قال لك : عبد الرحمن ؟.. ».
فقال وقد ملأ الفرح اهابه :
« أصلح الله الأمير البشارة العظمى ... ».
« ما ذاك ؟ مثلك من بشّر بخير ... ».
« إن إبني هذا يخبرني أن مسلماً في دار طوعة ... ».
وطار ابن زياد من الفرح والسرور فقد تمّت بوارق آماله وأحلامه ، فقد ظفر بسليل هاشم ليقدّمه قرباناً لاَمويته اللصيقة ، وأخذ يمني ابن الأشعث بالمال والجاه المزيّف ، قائلاً له :
« قم فأتني به ، ولك ما أردت من الجائزة والحظّ الأوفى ... ».
وسال لعاب ابن الأشعث فاندفع وراء أطماعه الدنيئة لإلقاء القبض على مسلم.
الهجوم على مسلم : وندب ابن مرجانة لحرب مسلم ، محمد بن الأشعث ، وعمرو بن حريث المخزومي وضمّ إليهما ثلثمائة رجل من فرسان الكوفة ، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة التي لا عهد لها بالشرف والمروءة إلى حرب مسلم الذي أراد أن يحررهم من الذلّ والعبودية ، وينقذهم من ظلم الأمويين وجورهم.
ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه ، فسارع إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، وصبّ عليه درعه ، وتقلّد سيفه ، والتفت إلى السيّدة الكريمة طوعة فشكرها على حسن ضيافتها ، وأخبرها أنه انّما أُوتي إليه من قبل ابنها الباغي اللئيم.
واقتحم الجيش الدار على مسلم فشدّ عليهم كالليث يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين من بين يديه يطاردهم الرعب والخوف ، وبعد فترة عادوا إليه فحمل عليهم ، وأخرجهم من الدار ، وانطلق نحوهم فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه ، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فقد قتل منهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ واحداً وأربعين ، عدا الجرحى ، وكان من قوته النادرة ، وعظيم بأسه أن يأخذ الرجل منهم بيده ، ويرمي به فوق البيت كأنّه حجر ، ومن المؤكّد أنّه ليس في تأريخ الإنسانية مثل هذه البطولة ، ولا مثل هذه القوة ، وليس ذلك غريباً عليه ، فعمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أشجع الناس ، وأقواهم بأساً وأشدّهم عزيمة.
وجعل أنذال أهل الكوفة يرمون مسلماً بالحجارة وقذائف النار من فوق سطوح بيوتهم ، ومما لا ريب فيه أن الحرب لو كانت في البيداء لأتى عليهم مسلم ، ولكنها كانت في الأزقة والشوارع ، ومع ذلك فقد فشلت جيوش أنذال أهل الكوفة ، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم ، فقد أشاع فيه القتل والدمار ، وأسرع ابن الأشعث بالطلب إلى سيّده ابن مرجانة ليمدّه بالخيل والرجال ، لأنّه لا يقوى على مقاومة هذا البطل العظيم ، وبهر الطاغية ، وأخذ يندد بقيادة ابن الأشعث قائلاً :
« سبحان الله !! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة ... ».
وثقل على ابن الأشعث هذا التقريع ، فراح يشيد ببطولات ابن عقيل قائلاً :
« أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة ، أو جرمقاني من جرامقة الحيرة وانّما بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام ». وأمدّه ابن زياد بقوة مكثفة من الجيش ، فجعل بطل الإسلام وفخر عدنان يقاتلهم أشدّ القتال وأعنفه وهو يرتجز :
أقسمت لا أقتل إلاّ حرّا
وإن رأيت الموت شيئاً نكرا

أو يخلط البارد سخناً مرّا
ردّ شعاع الشمس فاستقرا

كلّ امرئ يوماً يلاقي شرّاً
أخاف أن أكذب أو أغرا

أما أنت يا بن عقيل فكنت سيّد الأباة والأحرار فقد رفعت لواء العزّة والكرامة ، ورفعت شعار الحرية ، وأما خصومك فهم العبيد الذي رضوا بالذلّ والهوان ، وخضعوا للعبودية والذل ، لقد أردت أن تحررهم ، وتعيد لهم الحياة الحرّة الكريمة ، فأبوا ذلك ، وعدوا عليك يقاتلونك ، وقد فقدوا بذلك إنسانيتهم ، ومقومات حياتهم.
ولمّا سمع ابن الأشعث رجز مسلم الذي أقسم فيه على أن يموت ميتة الأحرار والأشراف انبرى إليه ليخدعه قائلاً :
« إنّك لا تكذب ، ولا تخدع ، إن القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، ولا ضاريّك .. ».
فلم يحفل مسلم بأكاذيب ابن الأشعث ، وراح يقاتلهم أعنف القتال وأشدّه ، ففرّوا منهزمين من بين يديه ، وهو يحصد رؤوسهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، فأنكر عليهم مسلم ذلك وصاح بهم :
« ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة ، كما تُرمى الكفار ، وأنا من أهل بيت الأبرار ، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وذريته .. ».
إنّ هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جميع القيم والأعراف ، فلم يرعوا أيّة حرمة لرسول الله (صلى الله عليه واله) الذي حرّرهم من حياة التيه في الصحراء وأقام لهم حضارة لم تعهدها الأمم والشعوب ، فكان جزاؤه منهم أن عدوا على أبنائه وذريته فأوسعوهم قتلاً وتنكيلاً.
وعلى أي حال فان جيوش ابن زياد لم تستطع مقاومة البطل العظيم وبان عليهم الانكسار ، وضاق بابن الأشعث أمره ، فدنا من مسلم ورفع عقيرته قائلاً :
« يا بن عقيل لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي .. ».
ولم يعن مسلم بأمان ابن الأشعث لعلمه أنّه من أسرة خبيثة لا تعرف أي معنى من معاني النبل والوفاء ، فردّ عليه قائلاً :
« يا بن الأشعث لا أعطي بيدي أبداً ، وأنا أقدر على القتال ، والله لا كان ذلك أبداً .. ».
وحمل عليه مسلم ففرّ الجبان منهزماً يلهث كالكلب ، وأخذ العطش
القاسي من مسلم مأخذاً عظيماً ، فجعل يقول :
« اللهمّ إن العطش قد بلغ منّي .. ».
وتكاثرت الجنود على مسلم ، وقد استولى عليهم الرعب والخوف ، وصاح بهم ابن الأشعث :
« إن هذا هو العار والفشل ان تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع ، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة ... ».
فحمل الأوغاد اللئام على مسلم ، وجعلوا يطعنونه برماحهم ، ويضربونه بسيوفهم ، وقد ضربه الوغد بكير بن حمران الاَحمري ضربة منكرة على شفته العليا ، وأسرع السيف إلى السفلى ، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.
أسره :
وأعيى مسلماً نزيف الدم ، وقد أثخن بالجراح ، فانهارت قواه ، ولم يتمكّن على المقاومة ، فوقع أسيراً بأيدي أُولئك الأقزام ، وتسابقوا إلى ابن مرجانة يحملون له البشرى بأسرهم للقائد العظيم الذي جاء ليقيم في بلادهم حكم القرآن ، ويحررهم من جور الأمويين وظلمهم ، وطار ابن مرجانة فرحاً ، فقد ظفر بخصمه ، وتمّ له القضاء على الثورة وحمل مسلم أسيراً إلى عبد الأمويين وعميلهم ، وقد ازدحمت الجماهير التي بايعته ، وأعطته العهود والمواثيق في الوفاء ببيعته إلاّ أنهم خانوا بذلك ، وراحوا يقاتلونه.
وانتهى بمسلم إلى قصر الامارة ، وقد أخذ العطش منه مأخذاً عظيماً فرأى جرّة فيها ماء بارد ، فالتفت إلى من حوله فقال لهم : « اسقوني من هذا الماء .. ».
فانبرى له اللئيم الدنس عميل الأمويين مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له :
« أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم .. ».
ودلّت هذه البادرة وغيرها مما صدر من هؤلاء الممسوخين على تجرّدهم من جميع القيم الإنسانية ، ومن المؤكّد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطين من قتلة الأنبياء والمصلحين ، وبهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له :
« من أنت ، .. ».
فأجابه الباهلي بأنّه من خدّام السلطة وأذنابها قائلاً :
« أنا من عرف الحق ، إذ تركته ، ونصح الأمة والامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته أنا مسلم بن عمرو الباهلي .. ».
أيّ حقّ عرفه هذا الجلف الجافي ، وهو والأكثرية الساحقة من المجتمع الذي عاش فيه ، قد غرقوا في الباطل والمنكر ... ان غاية ما يفخر به الوغد تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو أقذر مخلوق عرفه التأريخ البشري ، وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : « لامك الثكل ، ما أجفاك وأفظّك ، وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جنهّم منّي .. ».
وكان عمارة بن عقبة حاضراً فاستحيا من جفوة الباهلي ولؤمه فدعا بماء بارد فصبّه في قدح ، وناوله إلى مسلم ، وكلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال : لو كان لي الرزق المقسوم لشربته.
مع ابن مرجانة :
وادخل قمر عدنان على ابن مرجانة ، فسلّم على الحاضرين ، ولم يسلّم عليه ، فأنكر عليه بعض صعاليك الكوفة قائلاً :
« هل تسلّم على الأمير ؟ .. ».
فصاح به البطل العظيم محتقراً له ولأميره قائلاً :
« اسكت لا أمّ لك ، والله ليس لي بأمير فأسلّم عليه .. »
وتميّز الطاغية غيظاً فراح يقول :
« لا عليك سلّمت أم لم تسلّم فانّك مقتول .. ».
إنّ بضاعة هذا الطاغية هي القتل والدمار ، وهي محالاً تخيف الأحرار أمثال مسلم ممن صنعوا تأريخ هذه الأمة ، وأقاموا كيانها الحضاري والفكري وجرت بين مسلم ، وبين ابن مرجانة كثير من المحاورات أثبت فيها مسلم صلابته وقوّة عزيمته ، وعدم انهياره أمام الطاغية ، وأثبت بشجاعته أنّه من أفذاذ التأريخ.
إلى الرفيق الأعلى :
والتفت العتُلّ الزنيم ابن مرجانة إلى بكير بن حمران الذي ضربه مسلم فقال له : خذ مسلماً ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك ، واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فقد بقي رابط الجأش ، قويّ العزيمة ، مطمئنّ النفس ، فصعد به إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ، ويقدّسه ، ويدعو على السفكة المجرمين وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائين فضرب عنقه ، ورمى بجسده ورأسه إلى الأرض ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي استشهد دفاعاً عن حقوق المظلومين ، والمضطهدين ، ودفاعاً عن كرامة الإنسان ، وقضاياه المصيرية ، وهو أوّل شهيد من الأسره النبوية يقتل علناً أمام المسلمين ، ولم يهبوا لإنقاذه والدفاع عنه.
إعدام هانئ :
أعدام هانئ :
وأمر سليل الغدر والخيانة بعد قتل مسلم ، بإعدام الزعيم الكبير ، والعضو البارز في الثورة هانئ بن عروة ، فأخرج من السجن ، وهو يصيح أمام أسرته التي هي كالحشرات قائلاً :
« وا مذحجاه .. ».
« وا عشيرتاه .. ».
ولو كان عند أسرته صبابة من الغيرة والحمية لهبّت لإنقاذ زعيمها العظيم الذي كان لها كالأب ، والذي قدّم لها جميع الخدمات ، ولكنها كبقيّة قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً ، ولا عهد لها بالشرف والكرامة.
وجيء بهانئ إلى ساحة يباع فيها الأغنام ، فنفّذ الجلاّدون فيه حكم الإعدام ، فهوى إلى الأرض يتخبّط بدم الشهادة .. لقد استشهد هانئ دون مبادئه وعقيدته ، وقد انطوت بشهادته أروع صفحة من صفحات البطولة والجهاد في الإسلام.
السحل في الشوارع :
وقام عملاء ابن زياد وعبيدة من الانتهازيين والغوغاء فسحلوا جثّة مسلم وهانئ في الشوارع والأزقة ، وذلك لإخافة العامة وشيوع الإرهاب بين الناس ، والاستهانة بشيعة مسلم وأنصاره ، وقد انتهت بذلك الثورة العملاقة التي كانت تهدف إلى إشاعة العدل والأمن والرخاء بين الناس ، وقد خلد الكوفيون بعد فشل الثورة إلى الذلّ والعبودية وأمعن الطاغية في ظلمهم فأعلن الأحكام العرفية في بلادهم ، وأخذ يقتل على الظنّة والتهمة ، ويأخذ البريء بالمذنب ، كما فعل أبوه زياد من قبل ، وقد ساقهم كالأغنام لأفظع جريمة عرفها التأريخ البشري وهي حربهم لحفيد النبي (صلى الله عليه واله) الإمام الحسين (عليه السلام).
______________
(1) حياة الإمام الحسين 2 : 255.