انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

و سار ابن سعد بالسبي المشار إليه فلما قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن. قال الراوي: فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت: من أي الأسارى أنتن؟
فقلن: نحن أسارى آل محمد عليهم السلام فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهن ملأ و أزرا و مقانع و أعطتهن فتغطين (بها ظ).
قال: و كان مع النساء علي بن الحسين عليهما السلام قد نهكته العلة و الحسن بن الحسن المثنى و كان قد واسى عمه و امامه في الصبر على ضرب السيوف و طعن الرماح و إنما ارتث و قد أثخن بالجراح و كان معهم أيضا زيد و عمر (عمرو خ ل) ولدا الحسن السبط (عليه السلام)فجعل أهل الكوفة ينوحون و يبكون فقال علي بن الحسين عليهما السلام تنوحون و تبكون من أجلنا فمن ذا الذي قتلنا .
أقول: روي عن عقيلة الهاشميين زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام: أنه لما ضرب ابن ملجم أباها و رأت أثر الموت فيه عرضت عليه حديث أم أيمن و قالت: حدثتني أم أيمن بكذا و كذا و قد أحببت أن أسمعه منك. فقال عليه السلام: يا بنتي الحديث كما حدثتك أم أيمن و كأني بك و بنساء (ببنات خ ل) أهلك سبايا بهذا البلد أذلاء خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس فصبرا صبرا فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما للّه على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم و غير محبيكم و شيعتكم‏ .
قال أبو منصور الطبرسي في الاحتجاج: خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم تقريعا و تأنيبا:
عن حذام (حذلم خ ل) بن ستير الأسدي قال: لما أتى علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) بالنسوة من كربلاء و كان مريضا و إذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب و الرجال معهن يبكون فقال زين العابدين (عليه السلام) بصوت ضئيل و قد نهكته العلة- إن هؤلاء يبكون فمن قتلنا غيرهم فأومأت زينب بنت علي ابن أبي طالب عليهما السلام إلى الناس بالسكوت.
قال حذام الأسدي: لم أر و اللّه خفرة قط أنطق منها كأنها تنطق و تفرغ على لسان أمير المؤمنين علي (عليه السلام)و قد أشارت إلى الناس بأن انتصوا فارتدت الأنفاس و سكنت الأجراس ثم قالت بعد حمد اللّه تعالى و الصلاة على رسوله صلى اللّه عليه و آله:
أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل و الغدر و الخذل ألا فلا رقأت العبرة و لا هدأت الزفرة إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون أيمانكم دخلا دخلا هل فيكم إلا الصلف و العجب و الشنف و الكذب و ملق الإماء و غمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضة (كقصة خ ل) على ملحودة ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم و في العذاب أنتم خالدون. أ تبكون‏ أبي أجل و اللّه فابكوا فإنكم أحرياء بالبكاء فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا فقد ابليتم بعارها و منيتم بشنارها و لن ترحضوها أبدا و أنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة و معدن الرسالة و سيد شباب أهل الجنة و ملاذ حربكم و معاذ حزبكم و مقر سلمكم و أسى كلمكم و مفزع نازلتكم و المرجع إليه عند مقاتلتكم و مدرة حججكم و منار محجتكم ألا ساء ما قدمتم لأنفسكم و ساء ما تزرون ليوم بعثكم. فتعسا تعسا و نكسا نكسا لقد خاب السعي و تبت الأيدي و خسرت الصفقة و بؤتم بغضب من اللّه و ضربت عليكم الذلة و المسكنة. أ تدرون ويلكم أي كبد لمحمد صلى اللّه عليه و آله فرثتم و أي عهد نكثتم و أي كريمة له أبرزتم و أي حرمة له هتكتم و أي دم له سفكتم لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا. لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقهاء شوهاء خرقاء كطلاع الأرض و ملاء السماء أ فعجبتم أن تمطرت (مطرت خ ل) السماء دما و لعذاب الآخرة أخزى و هم لا ينصرون فلا يستخفنكم المهل فإنه عز و جل لا يخفره البدار و لا يخشى عليه فوت الثار كلا إن ربك لنا و لهم لبالمرصاد.
ثم أنشأت سلام اللّه عليها تقول:
ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم‏ ما ذا صنعتم و أنتم آخر الأمم‏
بأهل بيتي و أولادي و تكرمتي‏ منهم أسارى و منهم ضرجوا بدم‏
ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم‏ أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم‏
إني لأخشى عليكم أن يحل بكم‏ مثل العذاب الذي أودى على إرم‏
ثم ولت عنهم.
قال حذام: فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم فالتفت إلى شيخ في جانبي يبكي و قد اخضلت لحيته بالبكاء و يده مرفوعة إلى السماء و هو يقول: بأبي و أمي كهولهم خير الكهول و شبابهم خير شباب و نساؤهم خير النساء و نسلهم نسل كريم و فضلهم فضل عظيم ثم أنشد:
كهولهم خير الكهول و نسلهم‏ إذا عد نسل لا يبور و لا يخزى‏
فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) : يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار و أنت بحمد اللّه عالمة غير معلمة فهمة غير مفهمة إن البكاء و الحنين لا يردان من قد أباده الدهر. فسكتت.
ثم نزل (عليه السلام) و ضرب فسطاطه و أنزل نساءه و دخل الفسطاط .
(احتجاج علي بن الحسين (عليهما السلام) على أهل الكوفة حين خرج من الفسطاط و توبيخه إياهم على غدرهم و نكثهم)
ثم قال حذام بن ستير: خرج زين العابدين (عليه السلام) إلى الناس و أومى إليهم أن اسكتوا فسكتوا و هو قائم فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على نبيه صلى اللّه عليه و آله ثم قال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا علي بن الحسين المذبوح بشط الفرات من غير ذحل و لا ترات أنا ابن من انتهك حريمه و سلب نعيمه و انتهب ماله و سبي عياله أنا ابن من قتل صبرا فكفى بذلك فخرا. أيها الناس ناشدتكم باللّه هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي و خدعتموه و أعطيتموه من أنفسكم العهد و الميثاق و البيعة و قاتلتموه و خذلتموه فتبا لكم ما قدمتم لأنفسكم و سوءة لرأيكم بأية عين تنظرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إذ يقول لكم قتلتم عترتي و انتهكتم حرمتي فلستم من أمتي.
قال: فارتفعت أصوات الناس بالبكاء و يدعو بعضهم بعضا هلكتم و ما تعلمون. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : رحم اللّه امرأ قبل نصيحتي و حفظ وصيتي في اللّه و في رسوله و في أهل بيته فإن لنا في رسول اللّه أسوة حسنة.
فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا يا بن رسول اللّه سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك و لا راغبين عنك فمرنا بأمرك رحمك اللّه فإنا حرب‏ لحربك و سلم لسلمك فنأخذن ترتك ممن ظلمك و ظلمنا.
فقال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم و بين شهوات أنفسكم أ تريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل كلا و رب الراقصات فإن الجرح لما يندمل من قتل أبي بالأمس و أهل بيته معه فلم ينسني ثكل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ثكل أبي (عليه السلام) و بني أبي و جدي (عليه السلام) شق لهازمي و مرارته بين حناجري و حلقي و غصصه تجري في فراش صدري و مسألتي ألا تكونوا لنا و لا علينا.
ثم قال عليه السلام:
لا غرو أن قتل الحسين و شيخه‏ قد كان خيرا من حسين و أكرما
فلا تفرحوا يا أهل كوفة بالذي‏ أصيب حسين كان ذلك أعظما
قتيل بشط النهر نفسي فداؤه‏ جزاء الذي أراده نار جهنما
و فيه أيضا: احتجاج فاطمة الصغرى على أهل الكوفة.
عن زيد بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام خطبت فاطمة الصغرى بعد أن ردت من كربلاء فقالت:
الحمد للّه عدد الرمل و الحصى وزنة العرش الى الثرى أحمده و أومن به و أتوكل عليه و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله و أن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير ذحل و لا ترات اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب و أن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) المسلوب حقه المقتول من غير ذنب كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت اللّه و بها معشر مسلمة بألسنتهم تعسا لرؤوسهم ما رفعت عنه ضيما في حياته و لا عند مماته حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب الضريبة (العريكة خ ل) معروف المناقب مشهور المذاهب لم تأخذه فيك لومة لائم و لا عذل عاذل هديته يا رب للإسلام صغيرا و حمدت مناقبه كبيرا و لم يزل ناصحا لك و لرسولك صلواتك عليه و آله حتى قبضته إليك زاهدا في الدنيا غير حريص عليها راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك رضيته فاخترته و هديته إلى طريق مستقيم.
أما بعد: يا أهل الكوفة يا أهل المكر و الغدر و الخيلاء انا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم و ابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنا و جعل علمه عندنا و فهمه لدينا فنحن عيبة علمه و وعاء فهمه و حكمته و حجته في الأرض في بلاده لعباده أكرمنا اللّه بكرامته و فضلنا بنبيه صلى اللّه عليه و آله على كثير من خلقه تفضيلا فكذبتمونا و كفرتمونا و رأيتم قتالنا حلالا و أموالنا نهبا كأنا أولاد الترك أو كابل. كما قتلتم جدنا بالأمس و سيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم قرت بذلك عيونكم و فرحت قلوبكم اجتراء منكم على اللّه و مكرا مكرتم و اللّه خير الماكرين فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا و نالت أيديكم من أموالنا فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة و الرزايا العظيمة { فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23] تبا لكم فانتظروا اللعنة و العذاب فكأن قد حل بكم و تواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم و يذيق بعضكم بأس بعض ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ألا لعنة اللّه على الظالمين.
ويلكم أ تدرون أية يد طاعنتنا منكم أو اية نفس ترغب إلى قتالنا أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا قست قلوبكم و غلظت أكبادكم و طبع على أفئدتكم و ختم على سمعكم و بصركم و سول لكم الشيطان و أملى لكم و جعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون تبا لكم يا أهل الكوفة كم ترات لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قبلكم و ذحول له لديكم ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) جدي و بنيه عترة النبي الطيبين الأخيار و افتخر بذلك مفتخر فقال:
نحن قتلنا عليا و بني‏ علي بسيوف هندية و رماح‏
و سبينا نساءهم سبي ترك‏ و نطحناهم و أي نطاح‏
بفيك أيها القائل الكثكث و لك الأثلب افتخرت بقتل قوم زكاهم اللّه و طهرهم و أذهب عنهم الرجس فأكظم واقع كما أقعى أبوك و إنما لكل امرئ ما قدمت يداه حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا اللّه‏
فما ذنبنا إن جاش دهرا بحورنا و بحرك ساج لا يواري الدعامصا
ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور.
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء و قالوا: حسبك يا ابنة الطيبين فقد أحرقت قلوبنا و أنضجت نحورنا و أضرمت أجوافنا. فسكتت عليها و على أبيها و جديها السلام‏ .
أقول: روى السيد (رحمه الله) هذه الخطب في اللهوف‏ و قال بعد هذه الخطبة: و خطبت أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) في ذلك اليوم من وراء كلتها رافعة صوتها بالبكاء فقالت: يا أهل الكوفة سوأة لكم ما لكم خذلتم حسينا و قتلتموه و انتهبتم أمواله و ورثتموه و سبيتم نساءه و نكبتموه فتبا لكم و سحقا. ويلكم أ تدرون أي دواه دهتكم و أي وزر على ظهوركم حملتم و أي دماء سفكتموها و أي كريمة أصبتموها و أي صبية سلبتموها و أي أموال انتهبتموها قتلتم خير رجالات بعد النبي و نزعت الرحمة من قلوبكم ألا إن حزب اللّه هم الفائزون (المفلحون خ ل) و حزب الشيطان هم الخاسرون. ثم قالت:
قتلتم أخي صبرا فويل لأمكم‏ ستجزون نارا حرها يتوقد
سفكتم دماء حرم اللّه سفكها و حرمها القرآن ثم محمد
ألا فابشروا بالنار إنكم غدا لفي سقر حقا يقينا تخلدوا
و إني لأبكي في حياتي على أخي‏ على خير من بعد النبي سيولد
بدمع غزير مستهل مكفكف‏ على الخد مني دائما ليس يجمد
قال الراوي: فضج الناس بالبكاء و النوح و نشر النساء شعورهن و وضعن التراب على رءوسهن و خمشن وجوههن و ضربن خدودهن و دعون بالويل و الثبور و بكى الرجال و نتفوا لحاهم فلم ير باكية و باك أكثر من ذلك اليوم‏ .
قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار: أقول: رأيت في بعض الكتب المعتبرة روي مرسلا عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الامارة بالكوفة فبينا أنا أجصص الأبواب و إذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة فأقبل علي خادم كان معنا فقلت: ما لي أرى الكوفة تضج؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد. فقلت: من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي عليه السلام.
قال: فتركت الخادم حتى خرج و لطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهبا و غسلت يدي من الجص و خرجت من ظهر القصر و أتيت إلى الكناس فبينما أنا واقف و الناس يتوقعون وصول السبايا و الرءوس إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملا فيها الحرم و النساء و أولاد فاطمة عليها السلام و إذا بعلي ابن الحسين عليهما السلام على بعير بغير وطاء و أوداجه تشخب دما و هو مع ذلك يبكي و يقول:
يا أمة السوء لا سقيا لربعكم‏ يا أمة لم تراعي جدنا فينا
لو أننا و رسول اللّه يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا
تسيرونا على الأقتاب عارية كأننا لم نشيد فيكم دينا
بني أمية ما هذا الوقوف على‏ تلك المصائب لا تلبون داعينا
تصفقون علينا كفكم فرحا و أنتم في فجاج الأرض تسبونا
أ ليس جدي رسول اللّه ويلكم‏ أهدى البرية من سبل المضلينا
يا وقعة الطف قد أورثتني حزنا و اللّه تهتك أستار المسيئينا

قال: و صار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمرة و الخبز و الجوز فصاحت بهم أم كلثوم: يا أهل الكوفة ان الصدقة علينا حرام.
و صارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال و أفواههم و ترمي به إلى الأرض.
قال: و قالت كل ذلك و الناس يبكون على ما أصابهم ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل و قالت لهم: صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم و تبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا و بينكم اللّه يوم فصل القضاء. فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت و إذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) و هو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و لحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب و وجه دارة قمر طالع و الرمح تلعب بها يمينا و شمالا فالتفتت زينب عليها السلام فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها و أومت إليه بحرقة و جعلت تقول:
يا هلالا لما استتم كمالا غاله خسفه فأبدا غروبا
ما توهمت يا شقيق فؤادي‏ كان هذا مقدرا مكتوبا
يا أخي فاطم الصغيرة كلمها فقد كاد قلبها أن يذوبا
يا أخي قلبك الشفيق علينا ما له قد قسى و صار صليبا
يا أخي لو ترى عليا لدى الا سر مع اليتم لا يطيق وجوبا
كلما أوجعوه بالضرب نادا ك بذل يفيض دمعا سكوبا
يا أخي ضمه إليك و قربه‏ و سكن فؤاده المرعوبا
ما أذل اليتيم حين ينادي‏ بأبيه و لا يراه مجيبا
قد ثبت عن الرواة الثقات أن عمر بن سعد لعنه اللّه حمل ودائع خير الأنبياء على الجمال بلا غطاء و لا وطاء فساقوهن كما تساق الأسارى فلما وردوا الكوفة أمر ابن زياد أن يستقبلهم برأس الحسين (عليه السلام)فحملوا الرأس الشريف على الرمح و فعلوا برءوس الباقين ذلك و سلكوا بها قدام القوم حتى وردوا البلد ثم طافوا بالرؤوس الشريفة في السكة و الأسواق.
كذا عن فتوح ابن أعثم‏ .
و روي عن عاصم عن زر قال: أول رأس حمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن علي عليهما السلام فلم أر باكيا و لا باكية أكثر من ذلك اليوم‏ .
و قال الجزري: و كان رأسه أول رأس حمل في الإسلام على خشبة في قول و الصحيح أن أول رأس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق‏ .
و في ينابيع المودة للسيد الفاضل الشيخ سليمان القندوزي و حكى هشام بن محمد عن القاسم المجاشعي قال: أتي بالرؤوس إلى الكوفة إذا فارس من أحسن الناس وجها قد علق في لبب فرسه رأس العباس بن علي رضي اللّه عنه فصار وجهه أشد سوادا من القار و قال: ما تمر علي ليلة إلا و اثنان يأخذان بضبعي ثم ينتهيان بي إلى النار فيدفعاني فيها ثم مات على أقبح حال‏ .
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): و لما وصل رأس الحسين (عليه السلام) و وصل ابن‏ سعد من غد يوم وصوله و معه بنات الحسين (عليه السلام) و أهله جلس ابن زياد للناس في قصر الإمارة و أذن للناس إذنا عاما و أمر بإحضار الرأس فأحضر بين يديه فجعل ينظر إليه و يتبسم و بيده قضيب يضرب به ثناياه‏ .
و في صواعق ابن حجر: قال: لما جي‏ء برأس الحسين (عليه السلام) إلى دار ابن زياد سالت حيطانها دما .
و قال كما عن شرح الهمزية: فأمر بالرأس فوضع على ترس في يمينه و الناس سماطان‏ .
و في مثير الأحزان: و رويت أن أنس بن مالك قال: شهدت عبيد اللّه بن زياد و هو ينكت بقضيب على أسنان الحسين (عليه السلام) و يقول: انه كان حسن الثغر.
فقلت: أم و اللّه لأسوأنك لقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقبل موضع قضيبك من فيه‏ .
و عن سعيد بن معاذ و عمر بن سهل أنهما حضرا عبيد اللّه يضرب بقضيبه أنف الحسين (عليه السلام) و عينيه و يطعن في فمه- الخ‏ .
قال الأزدي: حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال: دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح اللّه عليه و بعافيته فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم ذلك ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس و أجد الوفد قد قدموا عليه فأدخلهم و أذن للناس فدخلت فيمن دخل فإذا رأس الحسين (عليه السلام) موضوع بين يديه و إذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم‏ عن نكته بالقضيب قال له: أعل بهذا القضيب عن‏ هاتين الثنيتين فو الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على هاتين الشفتين يقبلهما. ثم انفضح‏ الشيخ يبكي فقال له ابن زياد: أبكى اللّه عينيك فو اللّه لو لا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضربت عنقك. قال:
فنهض فخرج فلما خرج سمعت الناس يقولون: و اللّه لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله. قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مرّ بنا و هو يقول: ملك عبد عبدا فاتخذهم تلدا انتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة و أمرتم ابن مرجانة فهو يقتل أخياركم و يستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل‏ .
و في تذكرة السبط و الصواعق كما عن التبر المذاب‏ أيضا قالوا: فنهض زيد و هو يقول: أيها الناس أنتم العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة و أمرتم ابن مرجانة و اللّه ليقتلن خياركم و ليستعبدن شراركم فبعدا لمن رضي بالذل و العار.
ثم قال: يا بن زياد لأحدثنك حديثا هو أغلظ فيك (أغيظ عليك خ ل) من هذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أقعد حسنا على فخذه اليمنى و الحسين‏ على اليسرى ثم وضع يده على يافوخهما و قال: اللهم إني أستودعك إياهما و صالح المؤمنين فكيف كانت وديعة رسول اللّه عندك يا بن زياد .
و في تذكرة السبط أيضا: قال: و في افراد البخاري عن ابن سيرين قال: لما وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يدي ابن زياد جعل في طست و جعل يضرب ثناياه بالقضيب و قال في حسنه شيئا و كان عنده أنس بن مالك فبكى و قال: كان‏ أشبههم برسول اللّه و كان مخضوبا بالوسمة. و روي أنه كان مخضوبا بالسواد.
قالوا: و لا يثبت في ذلك و إنما غيرته الشمس.
و قال هشام بن محمد: لما وضع الرأس بين يدي ابن زياد قال له كاهنه: قم فضع قدمك على فم عدوك‏ .
أقول: ثم نقل ما لا أحب نقله من المصيبة العظيمة الموجعة و للّه در مهيار حيث قال:
يعظمون له أعواد منبره‏ و تحت أرجلهم أولاده وضعوا
و جزى اللّه المختار خيرا حيث انتقم من ابن زياد ذلك فقد روى الشيخ أبو جعفر الطوسي و الشيخ جعفر بن نما: أنه لما أتي المختار برأس ابن زياد كان يتغدى فحمد اللّه تعالى على الظفر و قال: وضع رأس الحسين بن علي عليهما السلام بين يدي ابن زياد لعنه اللّه و هو يتغدى و أتيت برأس ابن زياد و أنا أتغدى فلما فرغ من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله ثم رمى بها إلى غلامه و قال:
اغسلها فإني وضعتها على وجه نجس كافر .
ثم قال السبط ابن الجوزي: و قال الشعبي: كان عند ابن زياد قيس بن عباد فقال له ابن زياد: ما تقول في و في حسين؟ فقال: يأتي يوم القيامة جده و أبوه و أمه فيشفعون فيه و يأتي جدك و أبوك و أمك فيشفعون فيك. فغضب ابن زياد و أقامه من المجلس‏ .
و قال المدائني: كان ممن حضر الواقعة رجل من بكر بن وائل يقال له جابر أو جبير فلما رأى ما صنع ابن زياد قال في نفسه: للّه علي أن لا أصيب عشرة من المسلمين خرجوا على ابن زياد إلا خرجت معهم فلما طلب المختار بثار الحسين‏ (عليه السلام) و التقى العسكران برز هذا الرجل و هو يقول:
و كل شي‏ء قد أراه فاسدا الا مقام الرمح في ظل الفرس‏
ثم حمل على صفوف ابن زياد فصاح: يا ملعون و يا ابن ملعون و يا خليفة الملعون. فتفرق الناس عن ابن زياد فالتقيا بطعنتين فوقعا قتيلين و قيل إنما قتل ابن زياد إبراهيم بن الأشتر كما نذكر .
و في التذكرة أيضا: و ذكر ابن سعد في الطبقات قال: قالت مرجانة أم ابن زياد لابنها: يا خبيث قتلت ابن رسول اللّه و اللّه لا ترى الجنة أبدا.
ثم ان ابن زياد نصب الرءوس كلها بالكوفة على الخشب و كانت زيادة على سبعين رأسا و هي أول رءوس نصبت في الإسلام بعد رأس مسلم بن عقيل بالكوفة .
قال الشيخ المفيد «قده»: و أدخل عيال الحسين (عليه السلام) على ابن زياد فدخلت زينب في جملتهم متنكرة و عليها أرذل ثيابها .
و في رواية الطبري و الجزري: لبست زينب ابنة فاطمة عليهما السلام أرذل ثيابها و تنكرت و حفت بها إماؤها .
ثم قال الشيخ المفيد (رحمه الله): فمضت عليها السلام حتى جلست ناحية من القصر و حف بها إماؤها فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية و معها نساؤها؟
فلم تجبه زينب فأعاد ثانية و ثالثة يسأل عنها فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فأقبل عليها ابن زياد و قال لها:
الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم و أكذب أحدوثتكم. فقالت زينب: الحمد للّه‏ الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى اللّه عليه و آله و طهرنا من الرجس تطهيرا انما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا و الحمد للّه. فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟ قالت: كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه تعالى بينك و بينهم فتحاجون إليه و تختصمون عنده‏ .
و في رواية السيد قالت: ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سيجمع اللّه بينك و بينهم فتحاج و تخاصم فانظر لمن يكون الفلج يومئذ هبلتك (ثكلتك خ ل) أمك يا بن مرجانة.
قال الراوي: فغضب ابن زياد و كأنه هم بها .
و في الارشاد: فغضب ابن زياد و استشاط فقال عمرو بن حريث: أيها الأمير إنها امرأة و المرأة لا تؤاخذ بشي‏ء من منطقها و لا تذم على خطابها. فقال لها ابن زياد: قد شفى اللّه نفسي من طاغيتك و العصاة من أهل بيتك. فرقت زينب عليها السلام و بكت و قالت له: لعمري لقد قتلت كهلي و أبرت أهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال ابن زياد: هذه سجاعة و لعمري لقد كان أبوها سجاعا شاعرا. فقالت: ما للمرأة و للسجاعة إن لي عن السجاعة لشغلا و لكن صدري نفث بما قلت‏ .
و عرض عليه علي بن الحسين عليهما السلام فقال له: من أنت؟ فقال: أنا علي بن الحسين. فقال: أ ليس قد قتل اللّه علي بن الحسين؟ فقال له علي: قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس. فقال له ابن زياد: بل اللّه قتله. فقال علي بن الحسين عليه السلام: اللّه يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد و قال: و بك جرأة لجوابي (على جوابي خ ل) و فيك بقية للرد علي اذهبوا به فاضربوا عنقه فتعلقت به زينب عمته و قالت: يا بن زياد حسبك من دمائنا و اعتنقته و قالت: و اللّه لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها و إليه ساعة ثم قال: عجبا للرحم و اللّه إني لأظنها ودت إني قتلتها معه دعوه فإني أراه لما به‏ .
و في تذكرة السبط: و قيل إن الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين (عليه السلام) أخذت الرأس و وضعته في حجرها و قبلته و قالت:
وا حسينا فلا نسيت حسينا اقصدته أسنة الأدعياء
غادروه بكربلاء صريعا لا سقى اللّه جانبي كربلاء
و قال السيد (رحمه الله) بعد قول زينب عليها السلام: يا ابن زياد إنك لم تبق منا أحدا فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه فقال علي (عليه السلام) لعمته:
اسكتي يا عمتي حتى أكلمه. ثم أقبل عليه فقال: أ بالقتل تهددني يا بن زياد أ ما علمت أن القتل لنا عادة و كرامتنا الشهادة .
ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين (عليه السلام) و أهله فحملوا إلى دار إلى جنب المسجد الأعظم فقالت زينب بنت علي عليه السلام: لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد أو مملوكة فإنهن سبين كما سبينا .
ثم أمر ابن زياد برأس الحسين (عليه السلام) فطيف به في سكك الكوفة و يحق لي أن أتمثل هنا بأبيات لبعض ذوي العقول يرثي بها قتيلا من آل الرسول عليهم السلام:
رأس ابن بنت محمد و وصيه‏ للناظرين على قناة يرفع‏
و المسلمون بمنظر و بمسمع‏ لا منكر منهم و لا متفجع‏
كحلت بمنظرك العين عماية و أصم رزؤك كل رن تسمع‏
أيقظت أجفانا و كنت لها كرى‏ و أنمت عينا لم تكن بك تهجع‏
ما روضة إلا تمنت أنها لك حفرة و لخط قبرك مضجع‏
و روى شيخنا الصدوق في الأمالي و الفتال النيسابوري في روضته عن حاجب عبيد اللّه بن زياد: أنه لما جي‏ء برأس الحسين (عليه السلام) أمر فوضع بين يديه في طست من ذهب و جعل يضرب بقضيب في يده على ثناياه و يقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد اللّه. فقال رجل من القوم: فإني رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يلثم حيث تضع قضيبك. فقال: يوم بيوم بدر. ثم أمر بعلي بن الحسين عليهما السلام فغل و حمل مع النسوة و السبايا إلى السجن و كنت معهم فما مررنا بزقاق إلا وجدناه ملاء رجالا و نساء يضربون وجوههم و يبكون فحبسوا في سجن و طبق عليها. ثم إن ابن زياد لعنه اللّه دعا بعلي بن الحسين (عليه السلام) و النسوة و أحضر رأس الحسين (عليه السلام) و كانت زينب بنت علي (عليه السلام) فيهم فقال ابن زياد: الحمد للّه الذي فضحكم و قتلكم- و ساق الكلام إلى أن قال- فأمر ابن زياد بردهم إلى السجن و بعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين (عليه السلام) ثم أمر بالسبايا و رأس الحسين (عليه السلام) فحملوا إلى الشام‏.