انصاره عليهم السلام
اهل بيته عليهم السلام

لما وصل كتاب ابن زياد الى يزيد و اطلع عليه، كتب إليه أن يرسل الرءوس و الأسرى، و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه انّه: لما قتل الحسين (عليه السلام) و جي‏ء بالأثقال و الأسارى حتى وردوا بهم الكوفة الى عبيد اللّه، فبينا القوم محتبسون اذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط، و في الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا و كذا، الى يزيد بن معاوية، و هو سائر كذا و كذا يوما و راجع في كذا و كذا فان سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل و ان لم تسمعوا تكبيرا فهو الامان إن شاء اللّه.
فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة اذا حجر قد ألقي في السجن و معه كتاب مربوط و موسى و في الكتاب: اوصوا و اعهدوا فانما ينتظر البريد يوم كذا و كذا، فجاء البريد و لم يسمع التكبير، و جاء كتاب بانّ سرّح الأسارى إليّ، فدعا عبيد اللّه بن زياد محفز بن ثعلبة و شمر بن ذي الجوشن، فقال: انطلقوا بالثقل و الرأس الى يزيد بن معاوية .
و في رواية الشيخ المفيد انّه: (دفع ابن زياد الرأس) الى زحر بن قيس و دفع إليه رءوس أصحابه و سرحه الى يزيد بن معاوية و انفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي و طارق بن ابي‏
ظبيان في جماعة من أهل الكوفة .
ثم انّ ابن زياد بعد انفاذه برأس الحسين (عليه السلام) أمر بصبيانه و نسائه فجهزوا و أمر بعلي بن الحسين (عليه السلام) فغلّ بغلّ الى عنقه، ثم سرح بهم في أثر الرأس مع مخفر بن ثعلبة و شمر بن ذي الجوشن لعنة اللّه عليهما، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس‏ .
و قال المقريزي‏ في الخطط و الآثار: ثم أرسل بها الى يزيد بن معاوية و أرسل النساء و الصبيان و في عنق عليّ بن الحسين و يديه الغل، و حملوا على الاقتاب‏ .
و في كامل البهائي انّه: ذهب الامام عليّ بن الحسين (عليه السلام) مع أهل البيت عليهم السّلام الى الشام على رواحلهم و معهم مواشيهم لانّ القوم نهبوا و سرقوا الاموال و تركوا المواشي، و كان عليهم شمر بن ذي الجوشن و مخفر بن ثعلبة لعنهما اللّه، و قد قيدوا عليّ بن الحسين (عليه السلام) بالاغلال و السلاسل و شدّوا يديه الى عنقه، و كان (عليه السلام) مشغولا بذكر اللّه و تلاوة القرآن و الاستغفار، و لم يكلّم أحدا الّا حريم النبوّة عليهم السّلام، انتهى‏ .
على أي حال، وضع هؤلاء المنافقون رءوس الشهداء على الرماح و تقدموا بها امام أهل بيت النبوة (صلى الله عليه واله)و ساروا بهم من منزل الى منزل و من مدينة الى مدينة في غاية الذلة و الشماتة، و كانوا يمكثون في كل قرية و قبيلة كي يعتبر شيعة عليّ (عليه السلام) و يخافوا و ييأسوا من خلافة آل عليّ عليهم السّلام و يبايعوا يزيدا لعنه اللّه و أخزاه.
و اذا سمعوا احدى النساء تبكي أو أحد الصبيان يصرخ، ضربوهم بكعوب الرماح، فساروا بهم على هذا النحو حتى قدموا دمشق، كما روى السيد في كتابه الاقبال نقلا عن كتاب مصابيح الانوار عن الصادق (عليه السلام) حيث قال: قال لي أبي محمد بن عليّ: سألت أبي عليّ بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال: حملني على بعير يطلع بغير وطاء و رأس الحسين (عليه السلام) على علم، و نسوتنا خلفي على بغال فاكف‏ و الفارطة خلفنا و حولنا بالرماح، ان دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح حتى اذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون‏ .
و نقل عن التبر المذاب‏ و غيره انّه: كان دأب هؤلاء الكفرة الذين حملوا الرءوس و الأسارى، أن يمكثوا في كل منزل و يخرجوا الرأس الشريف من الصندوق فيضعوه على الرمح، ثم يعيدوه وقت الرحيل، و كانوا يشربون الخمر في اكثر المنازل، و ممن كان معهم: مخفر بن ثعلبة و زحر بن قيس و شمر و خولي و غيرهم لعنهم اللّه و أخزاهم‏ .
يقول المؤلف: قد ذكر أرباب المقاتل المعتبرة المعروفة، ترتيب المنازل التي نزلها أهل البيت عليهم السّلام من الكوفة الى الشام لكن لم يذكروا وقائع بعض المنازل الّا انّ مفردات تلك الوقائع مضبوطة في الكتب المعتبرة.
و ذكرت المنازل في الكتاب المنسوب‏ الى أبي مخنف و هي كما قال: و ساروا بالسبايا و الرءوس الى شرقي الجصاصة و عبروا تكريت و أخذوا على طريق البر ثم على الأعمى ثم على دير عروة ثم على صليتا ثم على وادي النخلة فنزلوا فيها و باتوا، قال: فسمعوا نساء الجن يبكين على الحسين (عليه السلام).
ثم دخلوا من وادي النخلة و أخذوا على أرميناء و ساروا حتى وصلوا الى لينا و كانت عامرة بالناس، فخرجت الكهول و الشبان ينظرون الى رأس الحسين (عليه السلام) و يصلون على جدّه و ابيه و يلعنون و من قتله و هم يقولون: يا قتلة أولاد الأنبياء أخرجوا من بلدنا.
فأخذوا على الكحيل و أتوا جهينة و انفذوا الى عامل موصل أن تلقانا فانّ معنا رأس الحسين (عليه السلام)، فلما قرأ الكتاب أمر بأعلام فنشرت، و المدينة فزيّنت و تداعت الناس من كل جانب و مكان، و خرج الوالي فتلقاهم على ستة أميال، فقال بعض القوم: ما الخبر؟ فقالوا: رأس خارجي خرج بأرض العراق قتله عبيد اللّه بن زياد (لعنه اللّه) و بعث برأسه الى يزيد (لعنه اللّه).
فقال رجل منهم: يا قوم هذا رأس الحسين (عليه السلام)، فلمّا تحققوا ذلك اجتمعوا في أربعين ألف فارس من الاوس و الخزرج و تحالفوا أن يقتلوهم و يأخذوا منهم رأس الحسين (عليه السلام) و يدفنوه عندهم ليكون فخرا لهم الى يوم القيامة.
فلما سمعوا ذلك لم يدخلوها و أخذوا على تلّ باعفر، ثم على جبل سبخار فوصلوا الى‏ نصيبين، و جعلوا يسيرون الى عين الورد و أتوا الى قريب دعوات، و كتبوا الى عاملها ان تلقانا فانّ معنا رأس الحسين (عليه السلام) فلما قرأ الكتاب أمر بضرب البوقات و خرج يتلقاهم فشهروا الرأس و دخلوا من باب الاربعين فنصبوا رأس الحسين (عليه السلام) في الرحبة من زوال الشمس الى العصر و أهلها طائفة يبكون و طائفة يضحكون.
قال: و باتوا ثملين من الخمور الى الصباح، و أتوا الى قنسرين و كانت عامرة بأهلها فلما بلغهم ذلك أغلقوا الابواب و جعلوا يلعنونهم و يرمونهم بالحجارة و يقولون: يا فجرة يا قتلة أولاد الأنبياء، فرحلوا عنهم، و أتوا الى معرّة النعمان و استقبلوهم و فتحوا لهم الأبواب و قدّموا لهم الاكل و الشرب و بقوا بقية يومهم و رحلوا منها و نزلوا شيرز، فتحالفوا أن لا يجوزوا في بلدهم، فلما عاينوا ذلك منهم لم يدخلوها و ساروا الى كفر طاب و كان حصنا صغيرا فغلقوا عليهم بابه فتقدم إليهم خولي فقال: أ لستم في طاعتنا فاسقونا الماء، فقالوا: و اللّه لا نسقيكم قطرة واحدة و انتم منعتم الحسين (عليه السلام) و أصحابه الماء.
فرحلوا منها و أتوا سيبور (فعمد أهلها) على القنطرة فقطعوها فخرجوا عليهم شاكين في السلاح فقال لهم خولي: إليكم عنّا، فحملوا عليه و على أصحابه فقاتلوهم قتالا شديدا، فقالت أمّ كلثوم: ما يقال لهذه المدينة؟ فقالوا: سيبور، فقالت: أعذب اللّه شرابهم و أرخص اللّه اسعارهم و رفع أيدي الظلمة عنهم.
ثم ساروا حتى وصلوا حما فغلقوا الابواب في وجوههم و ركبوا الستور و قالوا: و اللّه لا تدخلون بلدنا و لو قتلنا عن آخرنا، فلما سمعوا ذلك ارتحلوا و ساروا الى حمص (ثم) أتوا بعلبك و كتبوا الى صاحبها انّ معنا رأس الحسين (عليه السلام) فأمر الجواري أن يضربن الدفوف و نشرت الاعلام و ضربت البوقات و أخذوا الخلوق و السكر و السويق و باتوا ثملين.
فقالت أمّ كلثوم: ما يقال بهذه البلد؟ فقالوا: بعلبك، فقالت: أباد اللّه خضراتهم و لا أعذب اللّه شرابهم و لا رفع اللّه أيدي الظلمة عنهم، (ثم) جدّوا في السير حتى دخلوا دمشق‏ .
هذا المختصر هو ما ذكر في الكتاب المنسوب الى أبي مخنف، و ذكر فيه و في كامل البهائي و روضة الشهداء و غيرها، قضايا و وقائع متعددة و كرامات كثيرة لأهل البيت عليهم السّلام و للرأس الشريف، و لما كان ذكرها ينافي هذا المختصر أقنع بذكر جملة منها، قال في المناقب:
و من مناقبه ما ظهر من المشاهد التي يقال لها مشهد الرأس من كربلاء الى عسقلان و ما بينهما و الموصل و نصيبين و حماة و حمص و دمشق و غير ذلك‏ .
و يظهر من العبارة انّ في كلّ منزل من هذه المنازل مشهدا للرأس و كرامة ظهرت منه.
و من الكرامات ما ذكره الفاضل الكاشفي في روضة الشهداء حيث قال:
انّ القوم لما أرادوا أن يدخلوا الموصل أرسلوا الى عامله أن يهيئ لهم الزاد و العلوفة و أن يزيّن لهم البلدة، فاتفق أهل الموصل أن يهيئوا لهم ما أرادوا و أن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا البلدة بل ينزلون خارجها و يسيرون من غير أن يدخلوا فيها فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها و وضعوا الرأس الشريف على صخرة.
فقطرت عليها قطرة دم من الرأس المكرم فصارت تشع و يغلي منها الدم كل سنة في يوم عاشوراء، و كان الناس يجتمعون عندها من الاطراف و يقيمون مراسم العزاء و الماتم كل عاشوراء و بقى هذا الى أيام عبد الملك بن مروان فأمر بنقل الحرج فلم ير بعد ذلك منه أثر، و لكن بنوا على ذلك المقام قبة سموها مشهد النقطة .
و منها حادثة حران التي ذكرت في بعض الكتب و الكتاب السابق أيضا و هي:
انّه لما أدخلوا الأسارى و الرءوس في مدينة حران خرج الناس للتفرج، فرأى يهودي اسمه يحيى انّ شفتي الرأس تتحركان فدنا منه فسمعه يقول: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] فتعجب الراهب فسأل عن الرأس فقصوا عليه الخبر، فترحم عليهم و نزع عمامته فقسمها بين العلويات و جاء بقباء من خز مع ألف درهم الى زين العابدين (عليه السلام) فمنعه الموكلون على الاسرى فسلّ الراهب سيفه و قتل خمسة منهم حتى قتل بعد ما أسلم، و قبره في باب حران يعرف بقبر يحيى الشهيد و الدعاء عند قبره مستجاب.
و مثلها حادثة زرير في عسقلان فانّه لما رأى المدينة قد زينت سأل عن السبب فلما اطلع على الواقع جاء الى السجاد (عليه السلام) بثياب، فجرح بعد ضرب الموكلين على الأسارى له.
و ذكر أيضا انّ أهل البيت عليهم السّلام لما وصلوا حماة دافع أهلها عنهم و نصروهم فاطلعت أمّ كلثوم على حمايتهم لهم فسألت: ما يقال لهذه المدينة؟ قالوا: حماة، قالت: حماها اللّه من كل ظالم.